كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها على الاستدارة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك بأدنى قاسر ، أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي لما يتحرك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة الشعور ، وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل صحيح ، واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها. نعم الواقع في نفس الأمر أحد الأمرين معينا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر شائع فيما بينهم فيندفع قوله : وأما الثاني فلأن الفلاسفة إلخ ، وأما قوله : إنه قد ثبت في الهندسة إلخ فجوابه أنهم قد صرحوا في كتب الهيئة بأن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر فنسبة كل جبل وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوز أن يكون مجموعها مانعا عن حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف حكمه حكم كل شعرة ، على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي ألزقت عليها حبات من حديد ، وما يقال : من أن فيه غير ذلك ابتناء على قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الابتناء غير مضر إن لم يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه ، واعترض على ما ادعى المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورده ، وظني أنه بعد الوقوف على مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر ، ونحن قد أسلفنا نحوه وأطنبنا الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام ، ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الإقليم الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرين وفي الثالث ثلاثة وثلاثين وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلا على أن كلامه لا يخلو عن مناقشة فتدبر ، ومعنى (أَلْقى) على ما نقل ابن عطية عن المتأولين خلق وجعل ، واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك أنه يقتضي أن الله سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد تقدم بعضها ، ولم يعد بعلى كما في قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] للإشارة إلى كمال الجبال ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساحة وانظر هل تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك ، والظاهر الأول لعد العرف إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد ، وقوله تعالى : (وَأَنْهاراً) عطف على رواسي والعامل فيه (أَلْقى) إلا أن تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه إياه ، وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد ، وجوز أن يكون مفعولا به لفعل مضمر وليس إجماعا خلافا لابن عطية. أي وجعل أو خلق أنهارا نظير ما قيل في قوله : علفتها تبنا وماء باردا. وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعد ما ذكر الجبال ، وقوله تعالى : (وَسُبُلاً) عطف على (أَنْهاراً) أي وجعل طرقا لمقاصدكم (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لها فالتعليل بالنظر إلى قوله تعالى : (وَسُبُلاً) كما هو الظاهر ، ويجوز أن يكون تعليلا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على بطلان الترك ، وقيل : تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى : (تَهْتَدُونَ) تورية حينئذ (وَعَلاماتٍ) معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب ، فقد حكي أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وإنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذا لها من السوف بمعنى الشم ، وأخرج ابن جرير ، وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار. وعن الكلبي أنها الجبال وعن قتادة أنها النجوم ، وقال ابن عيسى : المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة ، والظاهر ما ذكر أولا ؛ وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر