إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] و (أَنِ) يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله (فَسِيرُوا) أيها المشركون المكذبون القائلون : لو شاء الله ما عبدنا من دونه (فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون ، وترتب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان ، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم. والحرص فرط الإرادة. وقرأ النخعي «وإن» بزيادة واو وهو والحسن وأبو حيوة «تحرص» بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة ، والجمهور (تَحْرِصْ) بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي لغة الحجاز (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) جواب للشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل ، والمراد بالموصول قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة الحكم ، ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أوليا ، ومعنى الآية على ما قيل : إنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل ، و (مَنْ) على هذا مفعول (يَهْدِي) كما هو الظاهر ، وقيل : إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم و (مَنْ) فاعله وضمير الفاعل في (يُضِلُ) لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله ، وقد حكي مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة والحسن والأعرج ومجاهد وابن سيرين والعطاردي ومزاحم الخراساني وغيرهم «لا يهدى» بالبناء للمفعول ـ فمن ـ نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر ، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أحد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له ، وهذا ـ على ما قيل ـ إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا قلنا به فهما بمعنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر. وقرأت فرقة منهم عبد الله «لا يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديدها ، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم.
وقرأت فرقة أخرى «لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال ، قال ابن عطية : وهي ضعيفة ، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازما بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية ، فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله. وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد. وقرئ «يضلّ» بفتح الياء ، وفي مصحف أبي «فإن الله لا هادي لمن أضل» (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنهم وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئا وضمير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم.
ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال لكن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق ، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث ، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قيل : ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما ، والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا بالله (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مصدر منصوب على الحال أي جاهدين في