المتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة ، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم ملائكة الرحمة ، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على صورة أخلاقهم الحسنة (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب الأنوار ، وقيل : طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات.
وقيل : طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة الأبدية (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) قالوه إلزاما بزعمهم للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلولا أنهم في نفس الأمر مشركون ما شاء الله تعالى ذلك (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هم أهل القرآن المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أودع فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه صلىاللهعليهوسلم فهو عليه الصلاة والسلام الأمين المؤتمن على الأسرار. وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة والسلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات ـ لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها ـ ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار. وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة. وخيانتها افشاؤها وإفشاؤها خطر عظيم. ولذا قيل :
من شاوروه فأبدى السر مشتهرا |
|
لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا |
وجانبوه فلم يسعد بقربهم |
|
وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا |
لا يصطفون مذيعا بعض سرهم |
|
حاشا ودادهم من ذاكم حاشا |
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) قيل : أي يتمثل صوره ومظاهره (عَنِ الْيَمِينِ) جهة الخير (وَالشَّمائِلِ) جهات الشرور ، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال إشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله : والشر ليس إليك ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال. وقيل في وجه الأفراد والجمع : إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفيء عنه من الشر لا يكون إلا متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفيء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) ينقاد (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) لأنه القاهر المؤثر فيهم (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) طوعا وانقيادا ، والله تعالى الهادي سواء السبيل.
ثم إنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات ، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقال عز قائلا :
(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ