بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روي (١) عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن فإن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم ، و (مِنْ) الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوف من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت ، وهي متعلقة ـ بنسقيكم ـ و (مِنْ) الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة ـ بنسقيكم ـ فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الاسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما و (لَبَناً) مفعول ثان ـ لنسقيكم ـ وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه ، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى نارهما فإن لذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر ، وجوز أن يكون (مِنْ بَيْنِ) حالا من (لَبَناً) قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.
وجوز أن تكون (مِنْ) الأولى ابتدائية كالثانية فيكون (مِنْ بَيْنِ) بدل اشتمال مما تقدم (خالِصاً) مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور في حلقهم لدهنيته. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما شرب أحد لبنا فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين».
وقرأت فرقة «سيّغا» بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغا» مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه ، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا. وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر ، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك اللبن الدهن والجبن ، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة ؛ فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.
(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما ، وحذف لدلالة (نُسْقِيكُمْ) قبله عليه ، وقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) بيان وكشف عن كنه الاسقاء أو ـ بتتخذون ـ و (مِنْهُ) من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيها أو خبر لمحذوف صفته (تَتَّخِذُونَ) أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وضمير (مِنْهُ) عائد إلى على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرف أريد به الجنس ، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر ، و «السكر» الخمر قال الأخطل :
__________________
(١) أي أن صح اه منه.