(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليهالسلام وكان قريبا من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه ، يقال : فصل من البلد يفصل فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلا إذا فرقه وهو متعد. وقرأ ابن عباس «ولما انفصل العير» (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب عليهالسلام لمن عنده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليهالسلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس ، وقال الحسن وابن جريج من ثمانين فرسخا ، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوما. وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال ، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليهالسلام فأذن الله تعالى لها ، وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليهالسلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قال ، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضا إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد (١) كما في قوله :
إلا سليمان إذ قال الإله له |
|
قم في البرية فاحددها عن الفند |
وبمعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال : فند الرجل إذا نسبه إلى الفند ، وهو على ما قيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجرا لقلة فهمه كما قيل :
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى |
|
فكن حجرا من يابس الصخر جلمد |
ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعل ؛ قال الشاعر :
يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي |
|
فليس ما قلت من أمر بمردود |
وجاء أفند الدهر فلانا أفسده ، قال ابن مقبل :
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه |
|
إذا كلف الافناد بالناس أفندا |
ويقال : شيخ مفند إذا فسد رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة لأنها لا رأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة ، وذكره الزمخشري في الكشاف وغيره ، واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلا وإن كان ناقصا يشتد نقصه بكبر السن فتأمل ، وجواب (لَوْ لا) محذوف أي لو لا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت : إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك ، والمخاطب قيل : من بقي من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير ، وقيل : ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور (قالُوا) أي أولئك المخاطبون (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي لفي ذهابك عن الصواب قدما بالإفراط في محبة يوسف والإكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا بمعنى الحب ، وقال مقاتل : هو الشقاء والعناء ، وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة: لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليهالسلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات.
__________________
(١) وجاء بمعنى الكذب كما في الصحاح وغيره اه منه.