محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها.
وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» وقيل : في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى.
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم ، وقال ابن عطاء : هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومى منتبهون (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي ننقلهم من عالم إلى عالم ؛ وقال ابن عطاء : نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق ، وقال آخر : نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار ، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) قال أبو بكر الوراق : مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم.
وقيل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال ، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي (فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي ، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) رددناهم إلى الصحو بعد السكر (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس ، وقيل : إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة ، ويقال : مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل :
أعد الليالي ليلة بعد ليلة |
|
وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا |
ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال ، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم (بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروي فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا