الوداد (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي القرآن بأن أنزلناه (بِلِسانِكَ) أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على أصله وهو الإلصاق لتضمين «يسرنا» معنى أنزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك ، والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل : بعد إيحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وأبشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهي أو الصائرين إليها على أنه من مجاز الأول (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) لا يؤمنون به لجاجا وعنادا ، واللد جمع الألد وهو كما قال الراغب : الخصم الشديد التأبي ، وأصله الشديد اللديد أي صفحة العنق وذلك إذ لم يمكن صرفه عما يريده.
وعن قتادة اللد ذوو الجدل بالباطل الآخذون في كل لديد أي جانب بالمراء ، وعن ابن عباس تفسير اللد بالظلمة ، وعن مجاهد تفسيره بالفجار ، وعن الحسن تفسيره بالصم ، وعن أبي صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم ؛ والمراد بهم أهل مكة كما روي عن قتادة (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) وعد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالإهلاك وحث له عليه الصلاة والسلام على الإنذار أي قرنا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، والاستفهام في معنى النفي أي ما تشعر بأحد منهم.
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني «تحسّ» بفتح التاء وضم الحاء (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا خفيا وأصل التركيب (١) هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفون ، وخص بعضهم الركز بالصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ، والأكثرون على الأول ، وخص الصوت الخفي لأنه الأصل الأكثر ولأن الأثر الخفي إذا زال فزوال غيره بطريق الأولى.
والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع منهم صوتا خفيا فضلا عن غيره ، وقيل : المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفي ، والحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبر ، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم أو لكل من يصلح للخطاب.
وقرأ حنظلة «تسّمّع» مضارع أسمعت مبنيا للمفعول والله تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) أمر للحبيب أن يذكر الخليل وما من الله تعالى به عليه من أحكام الخلة ليستشير المستعدين إلى التحلي بما أمكن لهم منها. والصديق على ما قال ابن عطاء القائم مع ربه سبحانه على حد الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه في صدقه معارض بحال ، وقال أبو سعيد الخزاز : الصديق الآخذ بأتم الحظوظ من كل مقام سني حتى يقرب من درجات الأنبياء عليهمالسلام ، وقال بعضهم : من تواترت أنوار المشاهدة واليقين عليه وأحاطت به أنوار العصمة.
وقال القاضي : هو الذي صعدت نفسه تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضة إلى أوج العرفان حتى اطلع على الأشياء وأخبر عنها على ما هي عليه ، ومقام الصديقية قيل : تحت مقام النبوة ليس بينهما مقام.
وعن الشيخ الأكبر قدسسره إثبات مقام بينهما وذكر أنه حصل لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
__________________
(١) قوله «واصل التركيب» إلخ كذا بخطه ولعل حقه وأصل الركز إلخ اه.