وعلل أبو يوسف المسألة بأنه لا خبث في نفس الصدقة وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا بالآخذ ولا يجوز ذلك له من غير حاجة والأخذ لم يوجد من السيد. وأورد عليه أنه ينافي جعلها أوساخ الناس في الحديث. ونقل عن الشافعي أنه إذا أعيد المكاتب إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة يلزم السيد رد ما أخذه إلا أن يتلف قبله لأن ما دفع للمكاتب لم يقع موقعه ولم يترتب عليه الغرض المطلوب.
قال الطيبي : وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح ، والمدار عندي اختلاف جهتي الملك فمتى تحقق لم تبق شبهة في الحل ، وقد صح أن بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءت بعد العتق بلحم بقر فقالت عائشة للنبي صلىاللهعليهوسلم : هذا ما تصدق به على بريرة فقال عليه الصلاة والسلام : هو لها صدقة ولنا هدية فأشار عليه الصلاة والسلام إلى حله لآل البيت الذين لا تحل لهم الصدقة باختلاف جهتي الملك فتأمل ، وللمكاتبة أحكام كثيرة تطلب من كتب الفقه.
(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان لعبد الله بن أبيّ جارية تدعى معاذة فكان إذا نزل ضيف أرسلها له ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فشكت ذلك إليه فذكره أبو بكر للنبي صلىاللهعليهوسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ من يعذرنا من محمد صلىاللهعليهوسلم يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت ، وقيل : كانت لهذا اللعين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت. وقيل : نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا أحدهما ابن أبيّ ، وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنهوا عن ذلك في الإسلام. ونزلت الآية ، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعلى جميع الروايات لا اختصاص للخطاب بمن نزلت فيه الآية بل هي عامة في سائر المكلفين.
والفتيات جمع فتاة وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة مطلقا وقد أمر الشارعصلىاللهعليهوسلم بالتعبير بهما مضافين إلى ياء المتكلم دون العبد والأمة مضافين إليه فقال عليه الصلاة والسلام : «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي» وكأنه صلىاللهعليهوسلم كره العبودية لغيره عزوجل ولا حجر عليه سبحانه في إضافة الأخيرين إلى غيره تعالى شأنه ، وللعبارة المذكورة في هذا المقال باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله سبحانه : (عَلَى الْبِغاءِ) وهو زنا النساء كما في البحر من حيث صدوره عن شوابهن لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر.
وقوله عزوجل : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها عن حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للاكراه في الجملة بل هو للمحافظة على عادة من نزلت فيهم الآية حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح ، وفيه من الزيادة لتقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه فضلا عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما عند إرادة التعفف ووفر الرغبة فيها كما يشعر به التعبير بأردن بلفظ الماضي ، وإيثار كلمة (إِنْ) على إذا لأن