إن عزرائيل وهو عبد من عبيده تعالى إذا قدر على تخليص الروح من البدن مع سريانها فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر فكيف لا يقدر خالق القوى والقدر جل شأنه على تمييز أجزائهم المختلطة بالتراب وكيف يستبعد البعث مع القدرة الكاملة له عزوجل لما أن ذلك السريان مما خفي على العقلاء حتى أنكره بعضهم فكيف بجهلة المشركين فتأمل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ترجعون» بالبناء للفاعل (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم القائلون : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أو جنس المجرمين وهو من حملتهم (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) مطرقوها من الحياء والخزي (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حين حسابهم لم يظهر من قبائحهم التي اقترفوها في الدنيا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «نكسوا رءوسهم» فعلا ماضيا ومفعولا (رَبَّنا) بتقدير القول الواقع حالا والعامل فيه (ناكِسُوا) أي يقولون ربنا إلخ وهو أولى من تقدير يستغيثون بقولهم : ربنا (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا صما لا ندرك شيئا (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) حسبما تقتضيه تلك الآيات وهذا على ما قيل ادعاء منهم لصحة مشعري البصر والسمع ، وقوله تعالى : (إِنَّا مُوقِنُونَ) استئناف لتعليل ما قبله ، وقيل : استئناف لم يقصد به التعليل ، وعلى التقديرين هو متضمن لادعائهم صحة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما يوجبها ، وفيه من إظهار الثبات على الإيقان وكمال رغبتهم فيه ما فيه ، وكأنه لذلك لم يقولوا : أبصرنا وسمعنا وأيقنا فارجعنا إلخ ، ولعل تأخير السمع لأن أكثر العمل الصالح الموعود يترتب عليه دون البصر فكان عدم الفصل بينهما بالبصر أولى ، ويجوز أن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه بأن يقال : أبصرنا البعث الذي كنا ننكره وما وعدتنا به على إنكاره وسمعنا منك ما يدل على تصديق رسلك عليهمالسلام ويراد به نحو قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الأنعام : ١٣٠] لا الإخبار الصريح بلفظ أن رسلي صادقون مثلا أو يقال أبصرنا البعث وما وعدتنا به وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة وإذعان أو يقال : أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا قول الملائكة لنا إن مردكم إلى النار ، وقيل : أرادوا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم حين كنا في الدنيا أو أبصرنا آياتك التكوينية وسمعنا آياتك التنزيلية في الدنيا فلك الحجة علينا وليس لنا حجة فارجعنا إلخ ، ولا يخفى حال هذا القيل ، وعلى سائر هذه التقادير وجه تقديم الأبصار على السماع ظاهر ، ولو» هي التي سماها غير واحد امتناعية وجوابها محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا لا يقادر قدره.
والخطاب في «ترى» لكل أحد ممن يصح منه الرؤية إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستفظاعها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعته ، وقيل : لأن القصد إلى بيان أن حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا يختص برؤيتها راء دون راء ، والجواب المقدر أوفق بما ذكر أولا ، والفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول أي لو تكن منك رؤية في ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا ، وجوز أن يكون الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم و (لَوْ) للتمني كأنه قيل : ليتك ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم لتشمت بهم ، وحكم التمني منه تعالى حكم الترجي وقد تقدم ، ولا جواب لها حينئذ عند الجمهور ، وقال أبو حيان ، وابن مالك : لا بد لها من الجواب استدلالا بقول مهلهل في حرب البسوس :
فلو نبش المقابر عن كليب |
|
فيخبر بالذنائب أي زير |
بيوم الشعثمين لقر عينا |
|
وكيف لقاء من تحت القبور |