وإما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم ، وإما عارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم ، وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه ، والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الاصطلاحي.
واستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي ، ونقل بعضهم عن الجنيد قدسسره أنه سئل عن السماع فقال : هو ضلال للمبتدي والمنتهي لا يحتاج إليه ، وفيه مخالفة لما سمعت.
وقال القشيري رحمهالله تعالى : إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يجب وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع ، ثم قال : فهذه شرائط صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول ، وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع ، والسماع فتنة يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة ، وأطال بما يطول ذكره ، قيل : وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لعقد شروط القيام بأدائه. ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أصحاب الصفة يوما فجلس بينهم ، وقال عليه الصلاة والتحية : هل فيكم من ينشدنا أبياتا. فقال واحد :
لسعت حية الهوى كبدي* ولا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به* فعنده رقيتي وترياقي فقام عليه الصلاة والسلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة ، وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة. فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليهالسلام صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلوه هو أيضا ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة والسلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم ، وأنا أقول : قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والخانات وسائر ما يعد من المحظورات ، ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين ، ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين ، وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم إنهم قبحهم الله تعالى إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون : نعني بالخمر المحبة الإلهية وبالسكر غلبتها وبمية ، وليلى ، وسعدى مثلا المحبوب الأعظم وهو الله عزوجل ، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [الأعراف : ١٨٠] وفي القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام ليس من أدب السماع أن يشبه غلبة المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء الأدب وكذا تشبيه المحبة بالخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه الله تعالى بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته فإن تشبيه النفيس بالخسيس سوء الأدب بلا شك فيه ، وكذا التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات ، ولقد كره لبعضهم قوله : أنتم روحي ومعلم راحتي ولبعضهم قوله : فأنت السمع والبصر لأنه لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما ، ثم إنه وإن أباح بعض أقسام السماع حط على من يرقص ويصفق عنده فقال : أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع كذاب ، وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك ،