وسأل عنه الحافظ محمد بن نصر السلامي فقال : إنه حديث صحيح ، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر ابن عمر وكان عمره إذ ذاك كما قال الحافظ المذكور سبع عشرة سنة بسد أذنيه ولا نهى الفاعل فلو كان ذلك حراما لأمر ونهى عليه الصلاة والسلام ، وسد أذنيه صلى الله تعالى عليه وسلم يحتمل أن يكون لكونه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك في حال ذكر أو فكر وكان السماع يشغله عليه الصلاة والسلام والتحية ويحتمل أن يكون إنما فعله صلىاللهعليهوسلم تنزيها ؛ وقال الأذرعي : بهذا الحديث استدل أصحابنا على تحريم المزامير وعليه بنوا التحريم في الشبابة ا ه.
والحق عندي أنه ليس نصا في حرمتها لأن سد الأذنين عند السماع من باب فعله صلىاللهعليهوسلم وليس مما وضح فيه أمر الجبلة ولأثبت تخصيصه به عليه الصلاة والسلام ولا مما وضح أنه بيان لنص علم جهته من الوجوب والندب والإباحة فإن كان مما علمت صفته فلا يخلو من أن تكون الوجوب أو الندب أو الإباحة لا جائز أن تكون الوجوب المستلزم لحرمة سماع اليراع إذ لا قائل بأنه يجب على أحد سد الأذنين عند سماع محرم إذ يأمن الإثم بعدم القصد فقد قالوا : إن الحرام الاستماع لا مجرد السماع بلا قصد ، وفي الزواجر الممنوع هو الاستماع لا السماع لا عن قصد اتفاقا ، ومن ثم صرح أصحابنا ـ يعني الشافعية ـ أن من بجواره آلات محرمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها لا عن قصد وإصغاء ا ه ، والظاهر أن الأمر كذلك عند سائر الأئمة ، نعم لهم تفصيل في القعود في مكان فيه نحو ذلك ، قال في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار : دعي إلى وليمة وثمة لعب وغناء قعد وأكل ولو على المائدة لا ينبغي أن يقعد بل يخرج معرضا لقوله تعالى : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ٦٨] فإن قدر على المنع فعل وإلا يقدر صبر إن لم يكن ممن يقتدى به فإن كان مقتدى به ولم يقدر على المنع خرج ولا يقعد لأن فيه شين الدين ، والمحكي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يصير مقتدى به ، وإن علم أولا لا يحضر أصلا سواء كان ممن يقتدى به أولا ا ه فتعين كونها الندب أو الإباحة وكلا الأمرين لا يستلزمان الحرمة فيحتمل أن يكون ذلك حراما أو مكروها يندب سد الأذنين عند سماعه احتياطا من أن يدعو إلى الاستماع المحرم أو المكروه ، وإن كان مما لم تعلم صفته فقد قالوا فيما كان كذلك المذاهب فيه بالنسبة إلى الأمة خمسة الوجوب والندب والإباحة والوقف والتفصيل وهو أنه إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويعلم مما ذكرنا الحال على كل مذهب والذي يغلب على الظن أن ما أشار إليه الخبر إن كان الزمر بزمارة الراعي على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات كما يفعله من جعل ذلك صنعته اليوم فاستماعه حرام وسد الأذنين المشار إليه فيه لعله كان منه عليه الصلاة والسلام تعليما للأمة أحد طرق الاحتياط المعلوم حاله لئلا يجرهم ذلك إلى الاستماع وإلا فالاستماع لمكان العصمة مما لا يتصور في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم ، ومن عرف قدر الصحابة واطلع على سبيلهم وحرصهم على التأسي به عليه الصلاة والسلام لم يشك في أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه سد أذنيه أيضا تأسيا ويكون حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام الذي يشير إليه الخبر له رضي الله تعالى عنه أتسمع على معنى تسمع (١) أتسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الحال عليه إذ من سد أذنيه لا يسمع ، وإنما أذن له صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك لموضع الحاجة وهذا أقرب من احتمال كون سد الأذنين منه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان في حال ذكر أو فكر وكان يشغله صلى الله تعالى عليه وسلم عند السماع.
وأما عدم نهيه عليه الصلاة والسلام من كان يرمز عن الزمر والإنكار عليه فلا يسلم دلالته على الجواز فإنه يجوز
__________________
(١) قوله على معنى تسمع هي بشد الميم في خط المؤلف ا ه.