الموضع وإلى هذا المعنى وقع البيان بقوله [عليه السلام] (١) : من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثّل بي ، فإن المرء يعلم قطعا أنه لم ير الذات النبوية ولا العين المرسلة إلى الخلق ، وإنما رأى مثالا صادقا في التعبير عنه ، والخبر به ، إذ قد يراه شيخا أشمط (٢) ، ويراه شابّا أمرد ، وبيّن صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانا زائدا ، فقال : من رآني فقد رأى الحقّ، أى لم يكن تخييلا ولا تلبيسا ولا شيطانا ، ولكن الملك يضرب الأمثلة على أنواع ، بحسب ما يرى من التشبيه بين المثال والممثّل به ، إذ لا يتكلم مع النائم إلا بالرمز والإيماء في الغالب ، وربما خاطبه بالصريح البيّن ، وذلك نادر. قال النبي صلى الله عليه وسلم : رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة (٣) ، فأوّلتها الحمى ، ورأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر ، فأوّلتها رجل من أهلى (٤) يقتل ، والبقر نفر من أصحابى يقتلون ، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة ، ورأيت في يدي سوارين فأولتهما كذّابين يخرجان بعدي ، إلى غير ذلك مما ضربت له به الأمثال.
ومنها ما يظهر معناه أولا ، ومنها ما لا يظهر [معناه] (٥) إلا بعد الفكر.
وقد رأى النائم في زمان يوسف بقرا فأوّلها يوسف السّنين ، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأوّل الشمس والقمر أبويه ، وأوّل الكواكب الأحد عشر إخوته الأحد عشر ، وفهم يعقوب مزيّة حاله ، وظهور خلاله ، فخاف عليه حسد الإخوة الذي ابتدأه ابنا آدم ، فأشار عليه بالكتمان.
فإن قيل : فقد كان يوسف في وقت رؤياه صغيرا ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف يكون لرؤياه حكم؟
فالجواب (٦) من ثلاثة أوجه :
الأول ـ أن الصغير يكون الفعل منه بالقصد ، فينسب إلى التقصير ، والرؤيا لا قصد فيها ، فلا ينسب تقصير إليها.
الثاني ـ أنّ الرؤيا إدراك حقيقة كما بيناه ، فيكون من الصغير كما يكون منه الإدراك
__________________
(١) من م.
(٢) الشمط : بياض شعر الرأس يخالط سواده ، والرجل أشمط.
(٣) في اللسان : ومهيع ومهيعة كلاهما موضع قريب من الجحفة.
(٤) في م : من أهل بيتي.
(٥) من م.
(٦) في م : الجواب عنه.