وقد أجاب عن ذلك علماؤنا بأنّ ما يجرى على اللسان من موزون الكلام لا يعدّ شعرا ، وإنما يعدّ منه ما يجرى على وزن الشعر ومع القصد إليه. فقد يقول قائل : حدثنا شيخ لنا ، وينادى يا صاحب الكساء ، ولا يعدّ هذا شعرا.
وقد كان رجل ينادى في مرضه وهو من عرض العامة العقلاء : اذهبوا بي إلى الطبيب ، وقولوا قد اكتوى ، وبهذا وسواه يتبيّن صحة الآية معنى ، وبطلان ما موّهوا به قطعا.
المسألة الخامسة ـ روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر قال : لا تكثر منه ، فمن عيبه أن الله يقول : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ). قال : ولقد بلغني أنّ عمر ابن الخطاب كتب إلى أبى موسى الأشعرى أن اجمع الشعراء قبلك واسألهم عن الشعر ، وهل بقي معهم معرفة به ، وأحضر لبيدا ذلك. قال : فجمعهم وسألهم فقالوا : إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدا فقال : ما قلت شعرا منذ سمعت الله يقول : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ).
قال ابن العربي : هذه الآية ليست من عيب الشعر ، كما لم يكن قوله تعالى (١) : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) من عيب الخط (٢). فلما لم تكن الأميّة من عيب الخط كذلك لا يكون نفى النظم عن النبي صلّى الله عليه وسلم من عيب الشعر ، وقد بينّا حال الشّعر في سورة الظلة ، والحمد لله.
الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٤) :
يروى أنّ أبى بن خلف أو العاصي بن وائل مرّ برمّة بالية فأخذها ، وقال : اليوم أغلب محمدا ، وجاء إليه ، فقال : يا محمد ، أنت الذي تزعم أنّ الله يعيد هذا كما بدأه ، وفتّته بيده ، حتى عاد (٥) رميما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) إلى آخر السورة.
__________________
(١) سورة العنكبوت ، آية ٤٨.
(٢) في م : الكتابة.
(٣) آية ٧٨ ، وما بعدها.
(٤) أسباب النزول للواحدي : ٢٠٩.
(٥) في م : صار.