(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٥٣)
____________________________________
قوله تعالى (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) فإن معناه أنه من الغيوب التى لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بما أرسلت به ولو كان المسؤول عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى (وَالسَّلامُ) الآيتين (فِي كِتابٍ) أى مثبت فى اللوح المحفوظ بتفاصيله ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لتمكنه وتقرره فى علم الله عزوجل بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة كما يلوح به قوله تعالى (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أى أى لا يخطىء ابتداء ولا يذهب علمه بقاء بل ثابت أبدا فإنهما محالان عليه سبحانه وهو على الأول لبيان أن إثباته فى اللوح ليس لحاجته تعالى إليه فى العلم به ابتداء أو بقاء وإظهار ربى فى موقع الإضمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقرير والإشعار بعلة الحكم فإن الربوبية مما يقتضى عدم الضلال والنسيان حتما ولقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجواب عبقرى بديع حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شئونه تعالى ثم تخلص إليه حيث قال بطريق الحكاية عن الله عزوجل لما سيأتى من الالتفات (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) على أن الموصول إما مرفوع على المدح أو منصوب عليه أو خبر مبتدأ محذوف أى جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذات مهد وهو مصدر سمى به المفعول وقرىء مهادا وهو اسم لما يمهد كالفراش أو جمع مهد أى جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أى حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية والبرارى تسلكونها من* قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أى بذلك الماء وهو عطف على أنزل داخل تحت الحكاية وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن تنفاد لأمره وتذعن لمشيئته الأشياء المختلفة كما فى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) وقوله تعالى (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) خلا أن ما قبل الالتفات هناك صريح كلامه تعالى وأما ههنا فحكاية عنه تعالى وجعل قوله تعالى (فَأَخْرَجْنا بِهِ) هو المحكى مع كون ما قبله كلام موسى عليه الصلاة والسلام خلاف الظاهر مع أنه يفوت حينئذ الالتفات لعدم اتحاد المتكلم (أَزْواجاً) أصنافا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض (مِنْ نَباتٍ) * بيان أو صفة لأزواجا أى كائنة من نبات وكذا قوله تعالى (شَتَّى) أى متفرقة جمع شتيت ويجوز أن يكون* صفة لنبات لما أنه فى الأصل مصدر يستوى فيه الواحد والجمع يعنى أنها شتى مختلفة فى الطعم والرائحة والشكل والنفع بعضها صالح للناس على اختلاف وجوه الصلاح وبعضها للبهائم فإن من تمام نعمته تعالى