بهذا خفّض النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من غلوائهم (١) ، وزجر أحناء طيرهم (٢) ، ولو بادههم (٣) بالأمر دفعة واحدة لَما أَمِنَ من معرّتهم (٤) ، فكأنّه خدّر بهذا الأُسلوب أعصابهم ، فتدرّجوا معه بالقبول شيئاً فشيئاً ، حتّىٰ كان يوم الغدير ، فأعلن الأمر لتلك الجماهير ، وما كان ليعلنه لو لا أنّ الله أمره بذلك ، وضمن له العصمة من أذاهم بقوله عزّ من قائل : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٥) .
فجمع صلىاللهعليهوآلهوسلم بحكمته البالغة بين تعيين الإمام ، وحفظ الأمن والنظام ، وما كان المعارضون يحسبون أن يقف موقفه يوم الغدير أبداً .
فلمّا وقف هذا الموقف وأدىٰ فيه عن الله ما أدّىٰ ، رأوا أنّ معارضته ـ في آخر حياته وقد بخعت (٦) العرب لطاعته ـ لا تجديهم نفعاً ، بل تجرّ عليهم الويلات ؛ لأنّها توجب إمّا سقوطهم بالخصوص ، أو سقوط الإسلام والعرب عامّة ، فيفوتهم الغرض الذي كانوا يأملون ، والمنصب الذي كانوا له
__________________
(١) الغُلْواء ؛ غُلَواءُ كلّ شيء أوّلُه وشِرَّته ؛ ٱنظر : لسان العرب ١٠ / ١١٤ مادّة « غلا » .
(٢) زجَرَ أحناء طيرهم : أي زجر نواحيهم يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً ، ويراد بالطير : الخفّة والطيش .
ٱنظر : لسان العرب ٣ / ٣٧٣ مادّة « حنا » .
(٣) بَدَهَهُ وبادَهَهُ بالأمر : فاجأه بالأمر وباغته به ؛ ٱنظر : لسان العرب ١ / ٣٤٧ مادّة « بده » .
(٤) المعرّة : الأذىٰ ؛ ٱنظر : لسان العرب ١٣ / ١٤٠ مادّة « معر » .
(٥) سورة المائدة ٥ : ٦٧ .
(٦) بخَعْتَ له : تذلّلتَ وأطعتَ وأقرَرْتَ وخضعتَ ؛ ٱنظر : لسان العرب ١ / ٣٣٢ مادّة « بخع » .