فقدم قدامة بن جعفر كتابه (نقد الشعر) وإسحاق بن وهب كتابه (نقد النثر) استمرارا للطريق الذى بدأ بترجمة آثار اليونان.
أما المتكلمون فقد ظل نشاطهم فى هذه المباحث متصلا ، وكان من أهم ما وصلهم بها أنهم عنوا بتعليل إعجاز القرآن وتفسيره بلاغيا وكانوا معتدلين ، فهم لا يحافظون محافظة اللغويين ، ولا يسرفون فى التجديد ، بل يقفون موقفا وسطا وهو موقف جعلهم يقبلون على معرفة ما عند الأجانب من قواعد البلاغة ، ولكن فى احتياط ، وهو احتياط يمثله الجاحظ خير تمثيل ، حين يضيف إلى الشذرات التى رواها عن الأمم الأجنبية سيولا من ملاحظات العرب المعاصرين والقدماء وأساتذة الاعتزال وبلغاء الكتاب ، وسيولا أخرى من الشعر والنثر لتتضح حقيقة البلاغة العربية.
ومع المتكلمين سارت القضية فى اطراد ، بها آثارهم الكلامية وجهودهم فى البلاغة.
وتتالت كتابات المتكلمين فى الأعجاز من النظّام حتى السكاكى المعتزلى ، ومن الباقلانى حتى الرازى الأشعرى. ثم خفت ضياء الابتكار حين اقتصر همّ الباحثين على شرح كتابات الجرجانى ، ومن بعد تلخيص كتابات السكاكى والرازى ثم انتهت التلخيصات إلى حواش وتقارير ، إلى أن صارت «تلك الشروح المادة الأساسية لتعليم البلاغة فى كل البيئات المعنية بالعربية على اختلاف الأفكار وتفاوت الأمصار» (١).
ونلحظ من هذا أن البلاغة قد عاشت فى بيئة المتكلمين وتحت رعايتهم ، وعلى يدهم ازدهرت وأينعت ، وهذا الارتباط الذى أفادها حين كان المتكلمون يجمعون بين الفن والفلسفة ، هو نفسه الذى جمّدها حين صار المتكلمون لا يجيدون إلا الفلسفة.
وقد وطدت قضية الأعجاز صلة المتكلمين بالأدب ، كما أخضعت التأليف البلاغى لها منذ عهد ازدهار البلاغة إلى قبيل أن تتجمد.
__________________
(١) الدكتور شوقى ضيف ـ البلاغة تطور وتاريخ ـ ٣٥٢.