والواقع أنّ تحليل هذه الاتّجاهات كلّها في نهج البلاغة يستدعي الإطالة ، ويقود إلى تكرار ما كتبه المؤرّخون والعلماء والفقهاء والدارسون ، قديماً وحديثاً ، وهذه ليست مهمّة هذه الدراسة التي نريد لها أن تتعرّض إلى طبيعة زهد الإمام عليّ (عليه السلام) واتّجاهاته ومكوّناته من خلال ما ورد في كتاب نهج البلاغة ، الذي ضمّ جُلّ خطبه وأحاديثه ورسائله ; بهدف التعريف بمضمون فكريّ واحد ، من جملة مضامين هذا النتاج الأدبي والفكري والديني ، الموروث عن ذلك السلف الصالح ، لعلّنا نستطيع أن نزيد في تسليط الأضواء تجاه تلك السيرة العطرة ، ونقتدي بها في التعامل مع الدين والحياة.
لقد جُبل عليّ (عليه السلام) على الورع والعلم والتقوى من دون مؤثّرات خارجيّة ، بارزة الملامح ، في ما عدا القرآن والتّلمذة النبوية حتّى عدّه جابر ابن حيّان (ت ١٩٨ هـ) مصدر العلم اللدنيّ بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).
وإذا صحَّ إجماع القول على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خُلِق كي يكون نبيّاً للبشريّة ، فإنّه ليس من الغلوّ أن يُقال : إنّ عليّاً (عليه السلام) خُلِق كي يكون إمامَ الزهـد والتقى ، وقد ضرب في سلوكه المثل على ذلك ، قبل أن يقدّم المواعظ.
وإذا وصلنا إلى مواعظه وأقواله ، فأوّل ما يلقانا فيها شدّة اهتمامه بوعظ الناس ، وإيقاظ ضمائرهم ، ودعواته المكرورة للتخلّي عمّا في الدنيا والهروب إلى الله ، وظلّت عبارة : «تخفّفوا تلحقوا» ، شديدة الوضوح في نهج البلاغة ..
____________
(١) حلية الأولياء ١٠ / ٧٨ ; نقلاً عن الفلسفة الصوفية في الإسلام : ١٦٠.