الدنيا بمفهومها اللّغويّ الدقيق الدالّ على تتبّع دنيِّ الأُمور وصغيرها وخسيسِها (١) ، وأنّ استصغار الدنيا (٢) ، ومحو آثارها من القلب (٣) ، الذي صار تعريفاً لمصطلح الزهد لاحقاً ، كان منهجاً قائماً في ممارسة عليّ (عليه السلام) وفي تطبيقاته ، فأدرك أنّ «من هوان الدنيا على الله أنّه لا يُعصى إلاّ فيها ، ولا يُنال ما عنده إلاّ بتركها» (٤) ، في زمن رأى البشر يتكالبون على نيل مباهجها ، ووجاهتها ، وترفها.
كما أنّ مراجعة تأريخ إنتاج نصوص نهج البلاغة ، واستقراء مناسبات كتابتها ، وأساليب توجيهها ، تكشـف عن أنّها وليدة ظروف متباينة ; تتّسم ـ من جهة ـ بتمكّن الإسلام الزاهد في قلوب فئة قليلة جدّاً من الصحابة.
وجاءت ـ من جهة ثانية ـ في ظل ظروف الفتوحات ونشر الدين ، والخلافات في الإمامة والسياسـة.
وتُرافِق ـ من جهة ثالثة ـ بواكير استفحال النزعة الفرديّة ، والمشاعر الأنانيّة ، والتكالب على المتاع الدنيويّ ..
وفي ظرف يمكن للدين فيه أن يُمسي طقوساً جافّة لا حياةَ فيها ، وأن تُضحي عبادات بعضهم خاليةً من التقديس والخشوع ; لأنّ تلك النفوس تحوّلت للانشغال بمصالحها العاجلة ، وغدت في غفلة عن مصيرها.
____________
(١) الزهد وصفة الزاهدين ١ / ٢٦.
(٢) كتاب الزهد الكبير ١ / ٣٤.
(٣) لسان العرب ، مادّة «د ن و» ; ونكتفي بالإشارة هنا إلى أنّ شرح الكلمات في هوامش البحث اللاحقة كلّها مأخوذة من المصدر نفسه.
(٤) شرح نهج البلاغة ـ مجموع ما اختاره الشريف الرضيّ (ت ٤٠٤ هـ) من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ـ لابن أبي الحديد ، ١٩ / ٣٢٦.