منها ما كانت عليه فى سالف الزمن ، وما كانت تزخر به من عمران ، وما كان يموج فيه أهلها من ألوان الحياة ، ومذاهب العمل .. لقد صار كل ذلك ترابا فى تراب!
واهتاجت مشاعر الرجل ، وتمثل له من هذا الهمود الموحش صور من الماضي البعيد ، وإذا القرية وأهلها حاضرة فى خياله ، تنبض بالحياة ، وتفور بالنشاط ، كإحدى القرى الحية الماثلة لعينيه هنا أو هناك .. وفتح الرجل عينيه فطار حلم اليقظة الذي ارتسم فى خياله .. وتساءل : أهذا الحلم يمكن أن يصبح حقيقة؟ وهل تعود هذه الأجساد التي بلاها البلى وأكلها التراب؟ هل تعود مرة أخرى إلى الحياة؟ أذلك ممكن؟ ويهتف به هاتف الإيمان : أهذا امتحان لقدرة الله؟ أأنت فى شك من تلك القدرة القادرة على كل شىء؟ ويجيب على نفسه : معاذ الله أن أمتحن أو أشك .. ولكن!! وتموت الكلمات بعد ذلك فى صدره ، ويمضى فى طريقه في صمت ووجوم!!
وهنا تجىء نجدة السماء فى أطواء قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) .. وكانت تجربة حية وجدها الرجل فى نفسه ، وفى الأشياء التي بين يديه .. الرجل ، وحماره ، وطعامه ، وشرابه .. وذلك يمثل الإنسان ، والحيوان ، والطعام ، والماء .. إنها صورة مصغرة للقرية بكل مشخصاتها ، مما يدخل عليه الفساد والانحلال مع الزمن .. الرجل وأشياؤه التي يضمها إليه .. فى رحلة إلى غاية يقصدها ، ومنزلة يحط عندها رحاله .. والقرية وأشياؤها التي تضمها إليها .. في رحلة إلى غاية هى سائرة إليها ، ومنزلة هى منتهية عندها .. يوم يقوم الناس لربّ العالمين!
وما يكاد الرجل يعطى القرية ظهره ، حتى تتردد فى أذنيه من جنباتها أصداء تلك الكلمات التي همس بها إلى نفسه :
(أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها)؟ فلا يلبث أن يخرّ صعقا! .. (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)