هو الذي يملك من أنفسنا ما لا نملك ، فإذا كان الله قد شاء لنا أن نعود القهقرى إليكم ، ونردّ على أعقابنا معكم ، فنحن مستسلمون لأمر الله ، راضون بحكمه ، أما نحن فى ذات أنفسنا ، فعلى عزم صادق ألّا نعود فى ملتكم أبدا ، إلا أن ينحلّ هذا العزم بيد الله ، لأمر أراده الله ، وقضاء قضى به .. (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) .. فهو ـ سبحانه ـ وحده الذي يعلم مصائر الأمور ، ولا يدرى أحد قدره المقدور له ، ولا مصيره الذي هو صائر إليه ، فذلك علمه عند علام الغيوب .. أما نحن فمطالبون بأن نستقيم على الحق ، وأن نفوّض الأمر لمالك الأمر .. (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) .. والفتح هو الحكم ، وتلك قضية بين شعيب وقومه ، هو يدعوهم إلى الهدى ، وهم يدعونه إلى الضلال ، وهو يلقاهم بالحسنى ، وهم يتهدّدونه بالبغي والعدوان ، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين الفريقين ، ويدين من هو أهل للإدانة ، ويأخذه بما يستحق من عقاب.
وقول شعيب : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) ـ مع أن فتح الله أو حكمه لا يكون إلا بالحق ـ هو تقرير للواقع ، وإشعار للخصوم بأنهم لا يؤخذون بغير الحق ، وأنهم وشعيب على سواء بين يدى من يفصل بينه وبينهم فيما هم مختلفون فيه.
ومع هذا الموقف العادل الذي يقفه شعيب من قومه ، وفى موقفه معهم فى ساحة القضاء الذي يقول كلمة الحق بينه وبينهم ـ فإنهم لم يقبلوا هذا منه ، ولم ينتظروا ما ينجلى عنه هذا الموقف ، بل جعلوا إلى أنفسهم أمر القضاء فى هذا الخلاف ، وأعطوا لأنفسهم كلمة الفصل فيه ، وأنهم هم وحدهم أصحاب الحق .. فأدانوا شعيبا ، وحكموا عليه بالخروج من القرية هو ومن آمن معه ، واستعجلوا إنفاذ هذا الحكم فيه وفيهم ..