فالاستثناء فى قوله تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) متعلق بالسوء .. بمعنى أن النفس تأمر بالسوء وتدفع إليه ، وأن الناس تبع لما تأمرهم به أنفسهم ، فيأتون كل ما تسوّل لهم به ، إلّا ما أراد الله دفعه عنهم من سوء ، رحمة منه ، ولطفا بعباده! وهذا بعض السرّ فى كلمة «ما» التي لغير العاقل.
وهذا يعنى أن الناس جميعا ـ بلا استثناء ـ واقعون تحت سلطان أنفسهم ، وأن هذا السلطان غالب عليهم ، وأن رحمة الله هى التي تعصم من تعصمه منهم من مواقعة المنكرات ، واقتراف الآثام ، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تقع منهم الهفوات والزلات ، فكل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ففى رحمة الله ومغفرته تغسل السيئات وتمحى الذنوب .. لمن تاب إلى الله ، ورجع إليه من قريب.
ويجوز أن يكون هذا من كلام يوسف ، على اعتبار أن من قوله كذلك : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، وأن هذا معطوف على ذاك ، ليقرر به أنه لا يبرّىء نفسه براءة مطلقة من هذا الأمر ، وأنه قد كان منه رغبة ، وهمّ ، ولكن الله عصمه وسلّمه .. وهذا الحديث إذا كان من يوسف ، فإنه يكون بينه وبين نفسه ، معلّقا به على مجرى الأحداث من حوله ..
قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي .. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) ..
أستخلصه لنفسى : أي أجعله خالصا لى ، أصطفيه ، وأستأثر به.
وهكذا يخرج يوسف من السجن إلى حيث يجلس مجلس الإمارة والسلطان ، فيكون من خاصة الملك ، المقربين إليه ، المشاركين له فى الحكم والسلطان ..!