والذي عليه أكثر المفسّرين أن هاتين المرتين قد وقعتا بالفعل ، وأن إحداهما كانت عند الأسر البابلىّ ، على يد بختنصّر ، الذي استولى على دولة بنى إسرائيل ودمرها تدميرا ، وهدم بيت المقدس ، وساق القوم أسرى إلى «بابل» ..
وأما المرة الثانية ، فكانت بعد أن قتلوا النبىّ «أرميا» ، وقيل بعد أن قتلوا النبىّ «يحيا» ..!
والذي ينظر فى قوله تعالى : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) يرى أن الإفساد الذي يقع من بنى إسرائيل مصاحب لصفة دالّة عليه ، مرهصة به ، وهى أن يكونوا فى حال ، هم فيها أصحاب قوة متمكنة وسلطان ظاهر ، وعلوّ فى الأرض .. وأن هذا السلطان الظاهر لهم ، وهذه القوة العتيدة بين أيديهم ، وهذا العلوّ البادي لهم ، إنما هو نعم مستنبتة فى أرض فاسدة ، وغيث هاطل على مستنقع عفن .. ومن هنا يكون البناء الذي أقاموا منه سلطانا ، وحصلوا منه على قوة ، وبلغوا به ما بلغوا من علو ـ هو بناء فاسد ، يحمل فى كيانه معاول هدمه وتدميره ..
فإذا نظرنا إلى بنى إسرائيل من خلال هذه الصفة التي يكونون عليها حين يأخذهم الله سبحانه وتعالى بما يأخذ به الظالمين ، فيسلط عليهم من يرميهم بالنقم ، ويأخذهم بالبأساء والضراء .. نجد أن تاريخ القوم يحدّث عن أنهم قد كانوا على تلك الصفة ، بعد سليمانعليهالسلام ، الذي أقام لهم دولة ، وأنشأ فيهم ملكا واسعا عريضا .. وأنهم بعد أن ورثوا هذا الملك العريض ، وملكوا هذا السلطان العتيد ـ بغوا وطغوا ، وأقلقوا من حولهم من أمم وشعوب .. فسلط الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض أولا ، فانقسموا إلى مملكتين ، مملكة «يهوذا» فى الجنوب ، وتضم بيت المقدس ، ومملكة إسرائيل فى الشمال ، وتضم سامريّا ..