وإذا أخذنا هذه المقولات بترتيبها هذا ـ الذي لم يقم على حساب عندنا ، إذ لا سبيل إلى تحقيق هذا الترتيب ـ نقول إذا أخذناها بهذا الترتيب ، وجدنا أن موسى كان أول أمره عند رؤية النار ، فى حال من الدّهش ، والنشوة ، لم يتبين معها الموقف على وجهه ، فوقع في نفسه ما كان في شوق إليه ، وهو العثور على من يؤنسه في هذا المكان الموحش ، فلما رأى النار أمسك بهذا الأمل الذي طلع عليه منها ، ورآه شيئا محققا ، فقال لأهله على سبيل القطع .. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) .. ثم ماهى إلا لحظة حتى يطرقه الشعور المضادّ لهذا الأمل المحبوب أن يفلت من يده ، فقال لأهله : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ .. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) .. على سبيل الرجاء ، لا القطع .. ثم هو لا يجيئهم بشهاب قبس ، بل سيجيئهم بقبس!! لقد تضاءل هذا الشهاب الساطع من الأمل ، فصار مجرد قبس .. ثم يعاوده الأمل مرة أخرى ، ولكن بصورة تجمع بين الرجاء والقطع بهذا الرجاء : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)!
هذا ، وإن لك أن تغير من أوضاع هذه المقولات الثلاث ، فتقدم وتؤخر ، وإذا هي في كل حال ، تصوير دقيق لمشاعر الإنسان ، فى مثل هذا الموقف ، الذي يحوطه القلق والاضطراب ، وتغمره الوحشة ، ويحتويه الظلام ..
وهذا التصوير الدقيق لأحوال النفس ، ومسارب الخاطر ، لا يمكن أن يكون في صورة كلامية ، إلا في كلمات القرآن ، ولا يمكن أن يحتمله نظم غير نظم القرآن!
ثم إنه ـ فى القرآن ـ لا يكون على صورة مقبولة مع هذا التكرار ، إلا إذا جاء موزعا ، كما هو واقع في هذه المعارض الثلاثة ، وإلا تراكمت ألوان الصورة وتدافعت ، وغطى بعضها وجه بعض!