ظواهره ، وإنما كان همهم حقيقته ، ولبابه ، وما انطوى عليه من علم ، وحكمة ، وتقدير .. إنهم كانوا في مستوى روحى رفيع ، بحيث يصغر في أعينهم كل ما هو مادىّ ، وإن بهر العيون ، وخلب الألباب! وإذن فلا نسأل إذا كان صحابة رسول الله قد اطلعوا على هذه الحقيقة من أمر الجبال أم لم يطلعوا ، لأنها كانت أقل الحقائق التي اطلعوا عليها ، وشغلوا بها ، من عالم الحق.
ومن جهة أخرى .. فإن من كان يعرف هذه الحقيقة لم يكن يرى من الحكمة التحدثّ بها ، وإذاعتها في المجتمع ، إذ كانت مما لا تصدّقه العقول يومئذ ، فالحديث به فتنة ، تشغل الناس ، وتثير دخانا كثيفا من الشكوك والريب .. ذلك في الوقت الذي كانت فيه وجهة الدعوة الإسلامية ، هى محاربة الشرك والإلحاد ، وتوجيه العقول والقلوب إلى وحدانية الإله الواحد ، المتفرد بالخلق والأمر ، رب العالمين .. فكل ما من شأنه أن يشغل عن هذه الغاية ، هو في الواقع حركة مضادة لدعوة الإسلام ، وحرب خفية عليها .. ولعلّ هذا هو السر في أن المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية ، قد خلت تماما من التعرض للحقائق العلمية ، التي تشغل العقول عن النظر المباشر إلى جلال الله سبحانه وتعالى ، فى صفحة هذا الوجود ، نظرا يملأ القلوب روعة وخشوعا ، ورهبة لهذا الإبداع الذي يتمثل في كل كائن من تلك الكائنات المبثوثة في الأرض أو في السماء .. فإن زهرة واحدة .. مثلا ، فى جمال ألوانها ، وتناسق أصباغها ، وتماثل أجزائها .. جديرة بأن تفتح للإنسان طريقا إلى الله ، وإلى الإيمان به ، إيمانا وثيقا ، مبرّا من كل شرك ، وشك! ..
ومن أجل هذا ، لم يلق القرآن الكريم أولئك الذين كانوا يريدون أن يدخلوا معه في ميدان المماحكة والجدل ـ لم يلقهم محاجا أو مجادلا ، بل صرف وجهه عنهم ، ودعاهم إلى أن يلتمسوا الطهر لقلوبهم من داء الشرك