القرآن منزل من عنده وليس من اصطناع البشر ، فصدّ العرب عن معارضته ودفعهم عن مجاراته ، أي أنّه منعهم منعا قهريّا أن يأتوا بمثل القرآن ، وصرفهم عنه صرفا مقصودا يدركون معه أنّهم معجزون أمامه ، على الرغم من وفرة قدراتهم البيانيّة وبراعتهم في القول.
والواقع أنّ هذه الفكرة قد نشأت ـ أوّل ما نشأت ـ في بيئة المتكلّمين منذ أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ، ذلك أنّ مسألة إعجاز القرآن كانت قضيّة من القضايا الاعتقاديّة المتّصلة بالنبوّة ، وقد استأثرت بالجدل والنقاش ، وهي ممّا يقع في صلب موضوع علم الكلام. وكان المعتزلة ـ وهم من أبرز من عني بالنظر العقليّ في مسائل الاعتقاد ـ هم الذين قد نبتت في بيئتهم فكرة الصرفة ، إلى جوار ما شاع بينهم وبين غيرهم من القول بالفصاحة والنظم القرآنيّ المعجز.
ويبدو أنّ إبراهيم بن سيّار النظّام (ت ٢٢٤ ه) كبير معتزلة عصره كان أقدم من ذهب هذا المذهب في قوله : «إنّ العرب لم يعجزوا عن معارضة القرآن ، وإنّما صرفهم الله عن تلك المعارضة». لكنّ النظّام لم يعالج هذه الفكرة بشيء من البيان والتفصيل ، أو إنّه قال بها «من غير تحقيق لكيفيّتها وكلام في نصرتها» كما يقول الشريف المرتضى (١).
وقد استهوت فكرة الصرفة عددا من تلامذة النظّام ، كان أبرزهم الجاحظ الذي مال اليها على الرغم من إيمانه بتفوّق النظم القرآنيّ الذي ألّف فيه كتابا مستقلّا. لكنّ الجاحظ ، شأنه شأن سلفه النظّام ، لم يكشف عن أبعاد لهذا المذهب ولم يبسط القول فيه ، فلم يفرد له بابا في كتاب ، وإنّما ذكره ذكرا عابرا في معرض حديث له
__________________
(١) الذخيرة في علم الكلام ٣٧٨.