إنّ اتساع دائرة الدليل ، في هذه المرحلة من عمر (علم الأُصول) ، لم يزعزع القيمة القطعية للدليل ، بل أنّ الذي حصل هو العكس تماماً ، فقد ازدادت البحوث المتعلّقة بحجّية القطع ، فما لم يكن الدليل حجّة قطعاً لا يمكن الاستناد عليه أو التمسّك به بأىّ حال من الأحوال ، وهذا الانفتاح العلمي عبّد الطريق لفقيه كبير من فقهاء الإمامية المتأخّرين ، ألا وهو الشيخ مرتضى الأنصاري (ت ١٢٨١ هـ) للتمييز بين الحجّتين : الحجّية الذاتية ، والحجّية بالعرض ، والحجّية بالعرض هو عنوان جديد لمباحث الظنّ التي لا يمكن اعتبار حجّيتها إلاّ بدليل قطعي من الشارع ، فالطرق والأمارات كالإجماع وخبر الثقة أصبحت بموجب الفهم الجديد حججاً مجعولة من قبل الشارع ثبّتت حجّيتها بالعرض ، في مقابل الأدلّة القطعية التي ثبّتت حجّيتها ـ ذاتياً ـ بالقطع.
عصر الحجج والأدلّة الشرعية والعقلية :
كان مبدأ (الاستناد إلى الدليل) في استنباط الحكم الشرعي في جميع عصور تطوّر (علم الأُصول) المحور الذي كانت تدار من حوله رحى البحث والنقاش ، وكان الرأي السائد ولا يزال أنّ الدليل ما لم يبلغ حدّ القطع والعلم لا يمكن اعتباره حجّة شرعية أو عقلية ولا يجوز الاستدلال به في عملية الاستنباط ، فإذا شُك في حجّية شيء ، فإنّ ذلك مساوقٌ لعدم حجّيته ، وعندها لا يمكن الالتزام به بأىّ شكل من الأشكال.
وكان هذا المقدار من العلم قد تناوله فقهاؤنا بعمق ووضوح ، ولكن كان قد حصل انقلاب جذري في المدرسة الأُصولية الإمامية في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري في ما يخصّ الرؤية الموضوعية