قال البيضاوي : فيه إشارة إلى أن اتّباعه ـ أي : إبراهيم ـ واجب فى التوحيد الصرف والاستقامة فى الدين ، والتجنب عن الإفراط والتفريط ، وتعريض بشرك اليهود. ه.
الإشارة : إذا تحقق للفقير الإخلاص ، وحصل على التوحيد الخاص ، كان الطعام كله حلالا له ، لأنه يأخذه بالله ، ويتناوله من يد الله ويدفعه لله ، مع موافقة الشريعة ، ولم يغض من أنوار الطريقة ؛ بحيث لا يصحبه شره ولا طمع. وكان عبد الله بن عمر يقول : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف أو مخيلة. ه.
وإنما امتنعت العباد والزهّاد من تناول الشهوات المباحات خوفا على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما ، فتعطلهم عن العبادة ، وكذلك المريدون السائرون ، ينبغى لهم التقلل من تناولها ؛ لئلا يتعلق قلبهم بشىء منها ، فتعطلهم عن السير ، وأما الواصلون العارفون ، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم ، فهم يأخذون بالله من يد الله ، كما تقدم.
والحاصل : أن النفس ما دامت لم تسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها ، وجب جهادها ومخالفتها ، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها ، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها. والله تعالى أعلم.
ولمّا كانت اليهود لا تحجّ بيت الله الحرام ، الذي بناه خليل الله إبراهيم عليهالسلام ، مع زعمهم أنهم على ملته ، ردّ الله تعالى عليهم بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ...) إلخ ، وقيل : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل ؛ لأنه مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة أفضل ؛ لأنه أول بيت وضع فى الأرض ، أنزل الله تعالى :
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))
قلت : (بكة) : لغة فى مكة ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، تقول : ضربة لازم ولازب ، وأغبطت عليه الحمّى وأغمطت ، وقيل : (مكة) بالميم : اسم للبلد كله ، وبكة : اسم لموضع البيت ، سميت بذلك ؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة ـ أي : تدقها ـ فما قصدها جبّار قط بسوء إلا قصمه الله. و (مباركا) : حال من الضمير فى المجرور ، والعامل فيه الاستقرار ، أي : الذي استقر ببكة مباركا ، و (مقام إبراهيم) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من (آيات) ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، على أن المراد بالآيات : أثر القدم فى الصخرة الصّماء ، وغوصها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصها بهذه المزيّة من بين الصخور ، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء ، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة ، فكان مقام إبراهيم ، وإن كان مفردا ، فى قوة الجمع ، ويدل عليه أنه قرئ (آية) : بالتوحيد.