ما فعل من الإدالة ليعلم ، أو عطف على علة محذوفة ، أي : نداولها ليكون كيت وكيت ، وليعلم ... إلخ ، إيذانا بأن العلة فيه غير واحدة ، وأن ما يصيب المؤمن : فيه من المصالح ما لا يعلم ، و (يعلم الصابرين) : منصوب بأن ، علّى أنّ الواو للجمع.
يقول الحق جل جلاله : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) فى غزوة أحد (قَرْحٌ) كقتل أو جرح ، (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) من أعدائكم يوم بدر (قَرْحٌ مِثْلُهُ) ، فإن كان قتل منكم خمسة وسبعون يوم أحد ، فقد قتل منهم يوم بدر سبعون وأسر سبعون. أو : (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) يوم أحد (قَرْحٌ) مثل ما أصابكم ، فإنكم نلتم منهم وهزمتموهم ، قبل أن تخالفوا أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، كما نالوا منكم يومئذ. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي : نصرف دولتها بينهم ، فنديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى ، كما قال الشاعر :
فيوم علينا ، ويوم لنا ، |
|
ويوم نساء ، ويوم نسر (١) |
فقد أديل المسلمون على المشركين يوم بدر ، فكانت الدولة لهم ، وأديل المشركون يوم أحد. والمراد بالأيام : أيام الدنيا ، أو أيام النصر والغلبة. وإنما أديل للمشركين يوم أحد ليتميز المؤمنون من المنافقين ، ويظهر علمهم للناس ، وليتخذ الله (مِنْكُمْ شُهَداءَ) حين ماتوا فى الجهاد ، أكرمهم الله بالشهادة ، ولا تدل إدالة المشركين على أن الله يحبهم ، فإن الله (لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). وإنما أدالهم (لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب ، وإنما أدال المسلمين على المشركين ليمحق الكافرين ويقطع دابرهم. والمحق : نقص الشيء قليلا قليلا.
ثم عاتب المسلمين فقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي : ظننتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) علم ظهوره ، (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي : لا تظنوا أن تدخلوا الجنة كما دخلها من قتل منكم ، ولم يقع منكم مثل ما وقع لهم من الجهاد والصبر على القتل والجرح ؛ حتى يقع العلم ظاهرا بجهادكم وصبركم.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ) قبل خروجكم إلى الجهاد (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي : الحرب ؛ لأنه سبب الموت ، وتقولون : ليت لنا يوما مثل يوم بدر ، فلقد لقيتموه وعاينتموه يوم أحد (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) من مات من إخوانكم ، فما لكم حين رأيتموه جبنتم وانهزمتم؟ وهو عتاب لمن طلب الخروج يوم أحد ، ثم انهزم عن الحرب ، ثم تداركهم بالتوبة والعفو ، على ما يأتى إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن يمسسكم يا معشر الفقراء قرح ؛ كحبس أو ضرب أو سجن أو حرج أو جلاء ، فقد مس العموم مثل ذلك ، غير أنكم تسيرون به إلى الله تعالى لمعرفتكم فيه ، وهم لا سير لهم لعدم معرفتهم ، أو إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم المتقدمين من أهل الخصوصية مثل ما أصابكم ، ففيهم أسوة لكم ، وهذه عادة الله فى أوليائه ، يديل عليهم حتى يتطهروا ويتخلصوا ، ثم يديل لهم ، وإنما أديل عليهم أولا ليتطهروا من البقايا وتكمل فيهم المزايا ، وليعلم
__________________
(١) البيت للنمر بن كولب ، كما ورد فى الكتاب لسيبويه ١ / ٨٦.