فمن بخل بماله حشر مع الفجار ، ومن بخل بنفسه وجاهه ، وبذل ماله ، حشر مع الأبرار ، ومن بذلهما معا حشر مع المصطفين الأخيار ، ومنتهى الملك لله الواحد القهار ، وهو الغنى بالإطلاق. فمن وصفه بضد ذلك كان من أهل البعاد والشقاق. وإلى ذلك أشار بقوله :
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣))
قلت : (وقتلهم) : معطوف على (ما) المفعولة أو النائبة عن الفاعل ، على القرائتين رفعا ونصبا ، و (أن الله) : عطف على (ما) أي : ذلك العذاب بسبب ما قدمتم وبأن الله منتف عنه الظلم ، فلا بد أن يعاقب المسيئ ويثيب المحسن ، (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) : صفة للذين (قالوا إن الله فقير) ، أو بدل منه مجرور مثله.
يقول الحق جل جلاله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ) اليهود (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وقائله : فنحاص بن عازوراء ، فى جماعة منهم ، وذلك أن النبي صلىاللهعليهوسلم كتب مع أبى بكر إلى يهود بنى قينقاع ، يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل أبو بكر رضي الله عنه مدراسهم (١) ، فوجد خلقا كثيرا اجتمعوا إلى فنحاس ، وهو من علمائهم ـ ومعه حبر آخر اسمه : (أيشع) ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، فأسلم وصدّق ، وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ، فقال فنحاص لعنه الله : يا أبا بكر ؛ تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقير من الغنى ، ولو كان غنيا ما استقرض ، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه وقال : لو لا ما بيننا من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له : عليه الصلاة والسلام : ـ «ما حملك على ما فعلت؟» فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير ، وهم أغنياء ، فجحد ما قال ، فنزلت الآية ؛ تكذيبا له.
__________________
(١) راجع معنى المدراس فى التعليق على تفسير الآية / ١٠٩ من سورة البقرة.