أبكار الحكم وعرائس الحقائق ، فإن أتت بشىء من علوم الحس ، فاذكروا اسم الله عليه ينقلب معانى ، واتقوا الله أن تقفوا مع شىء سواه ، (إن الله سريع الحساب) ؛ فيحاسبكم على الخواطر والطوارق إن لم تعرفوا فيها. اليوم أحل لكم الطيبات ، أي : حين دخلتم بلاد المعاني ورسختم فيها ، أحل لكم التمتع بالمشاهدات والمناجاة ، وطعام العلوم الظاهرة حلّ لكم تتوسعون بها ، وطعامكم حل لهم ، أي : وتذكيركم بما يقدرون عليه حلّ لهم ؛ لأن العارف الكامل يسير كل واحد على سيره ، ويتلون معه بلونه ، يقره فى بلده ويحوشه إلى ربه. نفعنا الله بذكره. آمين.
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب ، وهو جواز نكاح الكتابية ؛ إذ لم يتكلم عليه فى سورة النساء ، فقال :
(... وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)
يقول الحق جل جلاله : وأحل لكم (الْمُحْصَناتُ) أي : الحرائر (مِنَ الْمُؤْمِناتِ) دون الإماء ، إلا لخوف العنت ، أو العفيفات دون البغايا ، فإن نكاحها مكروه ، (وَ) أحل لكم (الْمُحْصَناتُ) أي : الحرائر (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فأحل الله نكاح اليهودية والنصرانية الحرتين دون إمائهم ، (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : أعطيتموهن مهورهن. فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعى. حال كونكم (مُحْصِنِينَ) ، أي : متعففين عن الزنى بنكاحها ، (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : مجاهرين بالزنى ، (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي : أصحاب تسرون معهن بالزنى ، والخدن : الصاحب ، يقع على الذكر والأنثى. والمعنى : أحللنا لكم نكاح الكتابيات ، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرا وجهرا.
ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس : كيف أتزوج من ليس على دينى؟ فأنزل الله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي : بشرائع الإيمان (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه.
الإشارة : قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار ، لأنها عرائس مخدّرة ، مهرها النفوس ، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء ؛ لرخص مهرها ، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها ؛ أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة ـ وهى مبادئ التصوف ، أي : التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم ، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها ؛ من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها ، وهذه العلوم كلها مشروعة ، والمشتغل بها متوجه إلى الله تعالى ، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) ، فمن كفر بها فقد حبط عمله ، وهو عند الله من الخاسرين.