فالولى نور من نور الله ، وسر من أسراره ، يخرج به من سبقت له العناية من ظلمات الحجاب إلى نور الشهود ، ويهدى به من اصطفاه لحضرته تعالى طريق الوصول إليه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مساوئ أهل الكتاب وضلالتهم ، تحريضا على قتالهم إن لم يسلموا أو يعطوا الجزية ، فقال :
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))
يقول الحق جل جلاله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ، والقائل بهذه المقالة هى الطائفة اليعقوبية من النصارى ، كما تقدم. وقيل : لم يصرح بهذه المقالة أحد منهم. ولكن لزمهم حيث قالوا بأن اللاهوت حل فى ناسوت عيسى ـ مع أنهم يقولون الإله واحد ، فلزمهم أن يكون هو المسيح ، ولزمهم الاتحاد والحلول ؛ فنسب إليهم لازم قولهم ، توضيحا لجهلهم ، وتقبيحا لمعتقدهم.
ثم رد عليهم بقوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : من يمنع من قدرته وإرادته شيئا ، (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، وبيان الرد عليهم : أن المسيح مقدور ومقهور ، قابل للفناء كسائر الممكنات ، ومن كان كذلك فهو معزول عن الألوهية. ثم أزال شبهتهم بحجة أخرى فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ؛ يتصرف فيهما كيف شاء ، (يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ؛ فقدرته عامة ؛ فيخلق من غير أصل ؛ كالسموات والأرض ، ومن أصل ؛ كخلق ما بينهما ، وينشىء من أصل ليس هو جنسه ؛ كآدم وكثير من الحيوانات ، ومن أصل يجانسه ، إما من ذكر وحده ؛ كحواء ، أو من أنثى وحدها : كعيسى ، أو منهما ؛ كسائر الناس. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد رمى كثير من الأولياء المحققين بالاتحاد والحلول ؛ كابن العربي الحاتمي ، وابن الفارض ، وابن سبعين ، والششترى والحلاج ، وغيرهم ـ رضى الله عنهم ـ وهم برءاء منه. وسبب ذلك أنهم لما خاضوا بحار التوحيد ، وكوشفوا بأسرار التفريد ، أو أسرار المعاني قائمة بالأوانى ، سارية فى كل شىء ، ماحية لكل شىء ، كما قال فى الحكم : «الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته» فأرادوا أن يعبروا عن تلك المعاني فضاقت عبارتهم عنها ؛ لأنها خارجة عن مدارك العقول ، لا تدرك بالسطور ولا بالنقول. وإنما هى أذواق ووجدان ؛ فمن عبّر عنها