الإشارة : لا ينبغى للفقراء أن يتخلفوا عن أشياخهم إذا سافروا لحج أو غزو أو تذكير أو زيارة ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، فيقعدون فى الراحة والدعة ؛ وشيخهم فى التعب والنصب ؛ لأن ما يصيبهم من مشاق السفر زيادة فى ترقيهم ومعرفتهم ، وتقوية لمعانيهم ، إلى غير ذلك من فوائد السفر ، فهو فى حق السائرين أمر مؤكد ، فكلما سار البدن فى عالم الشهادة سار القلب فى عالم الغيب ، كما هو مجرب. والله تعالى أعلم.
ولما ذمّ الله تعالى من تخلف عن تبوك ، ووسمه بالنفاق ، لم يقدر أحد بعد ذلك على التخلف ، فخفف عنهم بقوله :
(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))
يقول الحق جل جلاله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) يستقيم لهم أن ينفروا (كَافَّةً) ؛ جميعا لنحو غزو ، أو طلب علم ، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعا ، فإنه بخل ، ووهن للإسلام. قال ابن عباس : هذه الآية فى البعوث إلى الغزو والسرايا ، أي : لا ينبغى خروج جميع المؤمنين فى السرايا ، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنفسه ، ولذلك عاتبهم فى الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى فى الخروج معه صلىاللهعليهوسلم ، وهذه فى السرايا التي كان يبعثها ، وقيل : هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع ، فهى دليل على أن الجهاد فرض كفاية.
(فَلَوْ لا) : فهلا (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) ؛ جماعة كبيرة ، كقبيلة أو بلدة ، (طائِفَةٌ) قليلة منها ؛ (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ، أما إذا خرجوا للغزو ؛ فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون ، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان ، وترقق البشرية ، فتستفيد الروح حينئذ علوما لدنية ، وأسرارا ربانية ، من غير تعلم ، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.
قال فى الإحياء : التفقه : الفقه عن الله ؛ بإدراك جلاله وعظمته ، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع ، ويحمل على التقوى وملازمتها ، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الإنذار ، لا الفقه المصطلح عليه. ه. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.
ثم قال تعالى : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) ، أي : وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر ؛ لأنه أهم ، وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية ، وأنه ينبغى أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم ، لا الترفع على الناس والتبسط فى البلاد. قاله البيضاوي. وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، أي : لعلهم يخافون مما حذروا منه.