ثم فسر عظمة ربوبيته ، فقال :
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ رَبَّكُمُ) الذي يستحق العبادة وحده هو (اللهُ) الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود ، وبه رد على من أنكر النبوة ، كأنه يقول : إنما أدعوكم إلى عبادة الله الذي خلق الأشياء ، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين؟ ثم فصّل ذلك فقال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي هى أصول الكائنات ، (فِي) مقدار (سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا ، ولم يكن حينئذ ليل ولا نهار ، والجمهور : أن ابتداء الخلق يوم الأحد. وفى حديث مسلم : يوم السبت ، وأنه خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استواء يليق به ، كاستواء الملك على سريره ليدبر أمر مملكته ، ولذلك رتب عليه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، وقد تقدم الكلام عليه فى الأعراف (١).
قال البيضاوي : يدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته ، وسبقت به كلمته ، بتحريك أفلاكها ، وتهيىء أسبابها ، والتدبير : النظر فى عواقب الأمور لتجىء محمودة العاقبة. ه.
(ما مِنْ شَفِيعٍ) تقبل شفاعته (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) له فى الشفاعة ، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله ، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء. (ذلِكُمُ اللهُ) أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو (اللهُ رَبُّكُمْ) لا غير ؛ إذ لا يشاركه أحد فى شىء من ذلك ، (فَاعْبُدُوهُ) : أفردوه بالعبادة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي : تتفكرون أدنى تفكر ، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة ، لا ما تعبدونه من الأصنام.
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث (جَمِيعاً) فيجازيكم على أعمالكم ، ويعاقبكم على شرككم ، (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) : مصدر مؤكد لنفسه ؛ لأن قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وعد من الله. (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بإظهاره فى الدنيا (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد إهلاكه فى الآخرة. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، تعليل للعودة ؛ وهى البعثة ،
__________________
(١) راجع تفسير الآية : ٥٤ من سورة الأعراف.