الإشارة : الإنكار على من أمر بالخروج عن العوائد والتقلل من الدنيا من طبع أهل الكفر والجهل ، وكذلك رميه بالحمق والسفه. فلا تجد الناس اليوم يعظمون إلا من أقرهم على توفير دنياهم ورئاستهم ، والتكاثر منها ، وأما من زهدهم فيها وأمرهم بالقناعة ، فإنهم يرفضونه ، ويحمقونه. وهذا طبع من طبع الأمم الخالية ، الجاهلة بالله ، وبما أمر به ، وفى الحديث : «لتتبعنّ سنن من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه». وبالله التوفيق.
ثم ذكر موعظة شعيب لقومه ، فقال :
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))
قلت : جواب «إن كنت» : محذوف ، أي : فهل ينبغى أن أخون فى وحيه وأخالفه فى أمره.
يقول الحق جل جلاله : (قالَ) شعيب لقومه : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) ، وهى النبوة والعلم والحكمة ، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) ؛ من عنده ، وبإعانته ، بلا كد فى تحصيله ، (رِزْقاً حَسَناً) : حلالا ، إشارة إلى ما آتاه من المال الحلال. فهل يسع لى بعد هذا الإنعام ، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية ، أن أخون فى وحيه ، وأخالفه فى أمره ونهيه ، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان ، والكف عن العصيان ، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك ، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم ، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد ، أي : كيف أترك ما أمرنى به ربى من تبليغ وحيه ، وأنا على بينة منه ، وقد أغنانى الله عنكم وعن غيركم. ولذلك قال إثره : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي : وما أريد أن آتى ما أنهاكم عنه ؛ لأستبد به دونكم ، فتتهمونى إن أردت الاستبداد به. يقال : خالفنى فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مول عنه ، وخالفنى عنه : إذا ولى عنه وأنت قاصده. (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي : ما أريد إلا أن أصلحكم بأمرى لكم بالمعروف ، ونهيى لكم عن المنكر جهد استطاعتي.
قال البيضاوي : ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن ، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعى فى كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة : أهمها وأعلاها : حق الله تعالى. وثانيها : حق النفس ، وثالثها : حق الناس. ه.