الشيطان ، وتحصيلا لكل باطل مروج لضلالة هادمة ، أو فساد مدمر ، قد اتخذوا من تأويل المتشابه حرفة وصناعة ، فالفتنة وجهتهم والتشكيك غايتهم ، وإثارة الشبهة شعارهم والإلحاد دثارهم. قال ابن قتيبة (١) : «وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون لغوا فيه وهجروا واتّبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول ؛ فحرفوا الكلم عن مواضعه وعدلوه عن سبيله وأدلوا فى ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر ، والحدث الغرّ ، واعترضت بالشبه فى القلوب ، وقدحت بالشكوك فى الصدور.
وأشد هؤلاء خطرا الذين خاضوا فى آيات الصفات وقد تعلّقت الفرق بهذا النوع من المتشابه ، وكان أخطرهم فى هذا الباب المعتزلة الذين جعلوا معيار التفرقة بين المحكم والمتشابه ، وكان أخطرهم فى هذا الباب المعتزلة الذين جعلوا معيار التفرقة بين المحكم والمتشابه أدلة العقول «فما وافق ذلك كان محكما ، وما احتمل هذا الوجه وخلافه فهو المتشابه. فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول» (٢).
وهذا الأصل الذى وضعه المعتزلة لم ينج منه محكم ولا متشابه فاختلطت كتاباتهم وأصبحت لا تهدف إلا إلى نشر مذهبهم وتشنجوا على أصول وقواعد زيّفت الحقائق العلمية ، وأضلت من اغترّ بهم «فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم ، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه» (٣).
إن من دلائل إعجاز القرآن العظيم أن أهل الزيغ والضلال مهما تطاولوا لا يستطيعون أن يدخلوا باب فهمه ولو عمّروا الدهر كله ، بل لا يزدادون إلا خسارا وفى نفس الوقت يجد المؤمن الصادق المخلص جميع الأبواب مفتحة أمامه يلج من أيها شاء حسب قابليته واستعداده.
١٠ ـ المحكم والمتشابه خرجا من مشكاة واحدة :
ليس فى آيات الكتاب المبين ما هو واضح وغامض بل الوضوح والغموض وصف متعلق بالناظر فى كتاب الله تعالى. وهذا أمر نسبى يختلف من فرد إلى آخر.
فالإيمان بمحكمه والإيمان بمتشابهه على حد سواء. ومن آمن بهذا وتوقف فى هذا فقد دخل فيمن قال الله عزوجل فيهم : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الآية : ٨٥ سورة البقرة ـ طولى الزهراوين ، سنام القرآن.
__________________
(١) ابن قتيبة : تأويل مشكل القرآن ١٧.
(٢) القاضى عبد الجبار : متشابه القرآن ٧ ، ٨.
(٣) ابن تيمية : درء تعارض العقل والنقل : القسم الأول ٢٧٥.