هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق ، وهي أنّ عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلاً ، قد يستطيع المنافقون لمدّة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان ، وبصداقة الكفار سرّاً ، لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف ، سرعان ما تنطفى ، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين.
٢ ـ في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة ، يهطل فيها مطر غزير ، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار ، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان ، وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافرٌ طريقه ، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير ، ولا من الرعد والبرق ، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام. هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي : (أوْ كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا).
هؤلاء يحسّون كل لحظة بخطر ، لأنّهم يطؤون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق.
نعم ، هؤلاء حيارى مضطربون ، لا يجدون طريقاً يسلكونه ، ولا دليلاً يهتدون به ، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم ، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).
هذه الآيات ـ وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي ـ تمتد لتشمل كل المنافقين في التاريخ ، لأنّ خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح ، ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفهم واضطرابهم ، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.
أمّا بشأن الفرق بين المثالين : إنّ قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى ...) يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي ، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أمّا قوله : (كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ...) فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق ، ولم يؤمنوا بالله قط.