«وهكذا توافرت الضوابط والموازين ، وكانت دائما مجدية.
«ولما ذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها ، أو يكسبون مناعة منها؟ ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة. ولما ذا لم تتطور ذبابة «تسي تسي» حتى تستطيع أن تعيش أيضا في غير مناطقها الحارة ، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب ، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية ، ليعلم أن بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة! ..
«إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان ؛ ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب. وحين تنمو الحشرات وتكبر ، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات ، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا. وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها ، ومنعها من السيطرة على العالم. ولو لا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور إنسانا فطريا يلاقي دبورا يضاهي الأسد في ضخامته ، أو عنكبوتا في مثل هذا الحجم!
«ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات ، والتي بدونها ما كان أي حيوان ـ بل كذلك أي نبات ـ يمكن أن يبقى في الوجود ... إلخ».
وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم ، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق ، وتدبيره الدقيق في الكون ، ويدرك البشر شيئا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ..
ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئا من هذا كله.
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ، لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ؛ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ؛ وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ..
وهكذا يجرد آلهتهم المدعاة من كل خصائص الألوهية فهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) والله خلق كل شيء. (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) .. يخلقهم عبادهم ـ بمعنى يصنعونهم ـ إن كانوا أصناما وأوثانا ـ ويخلقهم الله ـ بمعنى يوجدهم ـ إن كانوا ملائكة أو جنا أو بشرا أو شجرا أو حجرا .. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ) فضلا عن أن يملكوا لعبادهم (ضَرًّا وَلا نَفْعاً) والذي لا يملك لنفسه النفع قد يسهل عليه الضر. ولكن حتى هذا لا يملكونه. ومن ثم يقدمه في التعبير بوصفه أيسر شيء كان يملكه أحد لنفسه! ثم يرتقي إلى الخصائص التي لا يقدر عليها إلا الله : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) فلا إماتة حي ، ولا إنشاء حياة ، ولا إعادتها داخل في مقدورهم. فماذا لهم بعد ذلك من خصائص الألوهية ، وما شبهة أولئك المشركين في اتخاذهم آلهة؟!.
ألا إنه الانحراف المطلق ، الذي لا يستغرب معه أن يدعوا على الرسول بعد ذلك ما يدعون ، فدعواهم على الله أضخم وأقبح من كل ما يدعون على رسوله. وهل أقبح من ادعاء إنسان على الله وهو خالقه وخالق كل شيء ، ومدبر أمره ومقدر كل شيء. هل أقبح من ادعاء إنسان أن لله شريكا؟ وقد سئل رسول الله