(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ...) والوصف بالعبودية في هذه المواضع له دلالته على رفعة هذا المقام ، وأنه أرفع ما يرتفع إليه بشر من بني الإنسان. كما أن فيه تذكيرا خفيا بأن مقام البشرية حين يبلغ مداه لا يزيد على أن يكون مقام العبودية لله. ويبقى مقام الألوهية متفردا بالجلالة. متجردا من كل شبهة شرك أو مشابهة. ذلك أن مثل مقام الإسراء والمعراج ، أو مقام الدعاء والمناجاة ، أو مقام الوحي والتلقّي ، كان مزلة لبعض أتباع الرسل من قبل ، منها نشأت أساطير النبوة لله ، أو الصلة القائمة على غير الألوهية والعبودية. ومن ثم يحرص القرآن على توكيد صفة العبودية في هذا المقام ، بوصفها أعلى أفق يرتفع إليه المختارون من بني الإنسان.
ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده .. (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) .. وهذا النص مكي ، وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى. لا كما يدعي بعض «المورخين» غير المسلمين ، أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية ، ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية. فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين. طبيعتها طبيعة عالمية شاملة ، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة ؛ وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد ، ومن نهج إلى نهج. عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود ..
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده .. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ..
ومرة أخرى لا يذكر لفظ الجلالة ولكن يذكر الاسم الموصول لإبراز صلته الدالة على صفات يراد توكيدها في هذا المقام :
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. فله السيطرة المطلقة على السماوات والأرض. سيطرة الملكية والاستعلاء ، وسيطرة التصريف والتدبير ، وسيطرة التبديل والتغيير.
(وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) .. فالتناسل ناموس من النواميس التي خلقها الله لامتداد الحياة ؛ وهو سبحانه باق لا يفنى ، قادر لا يحتاج.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) .. وكل ما في السماوات والأرض شاهد على وحدة التصميم ، ووحدة الناموس ، ووحدة التصريف.
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). قدر حجمة وشكله. وقدر وظيفته وعمله. وقدر زمانه ومكانه. وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير.
وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه ، لما يدعو إلى الدهشة حقا ، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا. ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره ، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ..
يقول (أ. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان : «الإنسان لا يقوم وحده (١)».
__________________
(١) ترجمة محمود صالح الفلكي بعنوان : «العلم يدعو إلى الإيمان».