المداينات وصل أحدهما إلى حاجته بقبض رأس المال ، والآخر لم يصل. فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود. فإذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه ارتدع عن الإنكار والجحود. لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس. ولا كذلك مع العين بالعين. لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر. فليس هنالك للإنكار معنى ، وثمة وجه آخر وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك. أو ينسى بعضه ويذكر بعضا ، فأمر بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة. ولا كذلك في بيع العين بالعين. فافترقا. كذا في التأويلات للماتريديّ (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ) أي الدين المذكور (كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) الجار متعلق إما بالفعل أي (وليكتب بالحق). أو بمحذوف صفة لكاتب ، أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين. لا يزيد ولا ينقص. وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه ديّن ، حتى يجيء كتابه موثوقا به معدلا بالشرع. (وَلا يَأْبَ) أي ولا يمتنع (كاتِبٌ) من (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) أي كما بيّنه بقوله تعالى (بِالْعَدْلِ). أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته. كما نفعه الله بتعليم الكتاب. كقوله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧]. وفي الحديث (١) : «إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق». وفي الحديث الآخر : «من كتم علما يعلمه ، ألجم بلجام من نار».
قال الرازيّ : ظاهر هذا الكلام نهي لكل كاتب عن الامتناع من الكتابة. وإيجابها على كل من كان كاتبا (فَلْيَكْتُبْ) أي تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيدا لها (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) الإملال الإملاء. وهما لغتان نطق القرآن بهما. قال تعالى : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) [الفرقان : ٥]. أي وليكن المملي على الكاتب المدين وهو الذي عليه الحق ، لأنه المقر المشهود عليه (وَلْيَتَّقِ) أي وليخش المملي (اللهَ رَبَّهُ) جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل ، للمبالغة في التحذير (وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص (مِنْهُ) أي مما عليه (شَيْئاً) مما عليه من الدين (فَإِنْ كانَ) المدين وهو (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) أي خفيف الحلم أو جاهلا
__________________
(١) أخرجه البخاريّ في : العتق ، ٢ ـ باب أي الرقاب أفضل. ونصه : عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت النبي صلىاللهعليهوسلم : أي العمل أفضل؟ قال «إيمان بالله وجهاد في سبيله» قلت : فأي الرقاب أفضل؟ قال «أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» قلت : فإن لم أفعل؟ قال «تعين صانعا أو تصنع لأخرق». قال : فإن لم أفعل؟ قال «تدع الناس من الشر ، فإنها صدقة تصدّق بها على نفسك».