قال الزمخشريّ : فإن قلت هلا اقتصر على قوله فإنه آثم. وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها. فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه. لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول ، إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي. ولأن القلب هو رئيس الأعضاء ، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله (١). فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط. وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه. واللسان ترجمان عنه. ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح. وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر. وهما من أفعال القلوب. فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب. وقرئ (قلبه) بالنصب. كقوله : سفه نفسه. وقرأ ابن أبي عبلة : أثم قلبه. أي جعله آثما (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) أي بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم (عَلِيمٌ).
القول في تأويل قوله تعالى :
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٨٤)
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح (أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة : والله بما تعملون عليم. ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقليّ فقال : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ومعنى هذا الملك ، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه
__________________
(١) يشير إلى الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه البخاريّ في : الإيمان ، ٣٩ ـ باب فضل من استبرأ لدينه ، حديث ٤٧ ونصه : عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «الحلال بيّن والحرام بيّن. وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشّبهات كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله في أرضه ومحارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب».