أحدهما ـ في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يردّ المتشابه إلى المحكم ،
وثانيهما ـ اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه.
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولا ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ. وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة «علم الله» على علم الخلق ، فإن العوائد التجربية ، والأدلة السمعية ، دلت على امتناع الاتفاق في تفاصيل الحكم ، وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكيا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وآله : (ما كانَ لِي (مِنْ عِلْمٍ) بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [ص : ٦٩] ، وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر. وصح في الحديث (١) اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس (٢) ، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفة وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافا ، خصوصا من المقلدين. وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليهماالسلام. وهذه فائدة نفيسة جدا ، وبها
__________________
(١) أخرجه البخاريّ في : الأنبياء ، ٣١ ـ باب وفاة موسى وذكره بعد ، حديث ١٦٠٤ ونصه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «احتج آدم وموسى. فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدّر عليّ قبل أن أخلق؟» فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فحج آدم موسى» مرتين.
(٢) أخرجه البخاريّ في : الأنبياء ، ٥٤ ـ باب حدثنا أبو اليمان ، حديث ١٦٢٩ ونصه : عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا. ثم خرج يسأل : فأتى راهبا فسأله. فقال له : هل من توبة؟ قال : لا. فقتله. فجعل يسأل. فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا. فأدركه الموت. فناء بصدره نحوها. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فأوحى الله إلى هذه : أن تقرّبي. وأوحى الله إلى هذه : أن تباعدي. وقال : قيسوا ما بينهما. فوجد إلى هذه أقرب بشبر. فغفر له.