الضلال ، الذي كانوا فيه قبل إرساله ، إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى الفلاح ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن الجهل إلى العلم. فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له ، أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير. كما ينال الناس بأذى المطر ، في جنب ما يحصل لهم به من الخير. وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ، ليحذروا ، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوه ويتكلوا عليه ، ولا يخافوا غيره. وأخبرهم بما له فيها من الحكم ، لئلا يتهموا في قضائه وقدره ، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه. وسلّاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة ، وعزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته ، لينافسوا فيه ، ولا يحزنوا عليهم ، فله الحمد كما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعز جلاله.
ثم قال ابن القيّم : ولما انقضت الحرب ، انكفأ المشركون ، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراريّ والأموال ، فشق ذلك عليهم ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم لعليّ بن أبي طالب : اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون ، فإن هم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا ركبوا الخيل ، وساقوا الإبل ، فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده! لئن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزهم فيها. قال عليّ : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة. ولما عزموا على الرجوع إلى مكة ، أشرف على المسلمين أبو سفيان ، ثم ناداهم : موعدكم الموسم ببدر. فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : قولوا نعم قد فعلنا. قال أبو سفيان : فذلكم الموعد. ثم انصرف هو وأصحابه. فلما كان في بعض الطريق ، تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا! أصبتم شوكتهم وحدهم ، ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم ، وقال : لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ، فقال له عبد الله ابن أبيّ : أركب معك ، قال : لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف ، وقالوا : سمعا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد الله وقال : يا رسول الله! إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك ، فأذن له ، فسار رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعيّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأسلم. فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله ، فلحقه بالروحاء ـ ولم يعلم بإسلامه ـ فقال : ما وراءك يا معبد؟ فقال : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم ، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله ، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال : ما تقول؟ فقال : ما أرى أن ترتحل