ولمسلم (١) عن النوّاس بن سمعان قال : أقمت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سنة بالمدينة ، ما يمنعني من الهجرة إلّا المسألة. كان أحدنا ، إذا هاجر ، لم يسأل النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
ومراده : أنه قدم وافدا ، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل ، خشية أن يخرج من صفة الوقد إلى استمرار الإقامة ، فيصير مهاجرا ، فيمتنع عليه السؤال.
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب ، وفودا كانوا أو غيرهم.
وأخرج أحمد (٢) عن أبي أمامة قال : لمّا نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ..) الآية ، كنّا قد أتقينا أن نسأله صلىاللهعليهوسلم. فأتينا أعرابيّا فرشوناه برداء وقلنا : سل النبيهصلىاللهعليهوسلم.
ولأبي يعلى عن البراء : إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن الشيء فأتهيّب. وإن كنا لنتمنى الأعراب ـ أي قدومهم ـ ليسألوا ، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب ، فيستفيدوها.
وأمّا ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة ، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية ، ويحتمل أن النهي عن الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه ، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة : كالسؤال عن الذبح بالقصب. والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة. والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن. والأسئلة التي في القرآن : كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك.
لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عمّا لم يقع ، أخذوه بطريق الإلحاق ، من جهة أن كثرة السؤال ، لمّا كانت سببا للتكليف بما يشق ، فحقها أن تجتنب.
وقد عقد الإمام الدارمي (٣) في أوائل (مسنده) لذلك بابا. وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك ، منها :
__________________
(١) أخرجه مسلم في : البرّ والصلة والآداب ، حديث ١٥ وتتمة الحديث : قال : فسألته عن البرّ والإثم؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «البرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك ، وكرهت أن يطّلع عليه الناس».
(٢) من حديث طويل في المسند ٥ / ٢٦٦.
(٣) أخرجه الدارمي في : المقدمة في : ١٨ ـ باب كراهية الفتيا.