الشك والحيرة. قال بعضهم : مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن ـ أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق : هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز. فإن عاد فقال : أخشى أن يكون من نهب أو غصب ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة ، فيحتاج أن يجيبه بالمنع. ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم ، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى. ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز. وإذا تقرر ذلك ، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها ، فإنه يقل فهمه وعلمه ، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ـ ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة ـ فإنه يذم فعله ، وهو عين الذي كرهه السلف. ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل. وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به. وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم. ـ كذا في (فتح الباري).
ثم رأيت في (موافقات) الإمام الشاطبيّ رحمهالله تعالى ، في أواخرها ـ في هذا الموضوع ـ مبحثا جليلا ، قال في أوله :
الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح. من ذلك قوله تعالى ... ـ وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضا عما نقلنا ـ ثم قال : ... والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية ، مذموم. وقد كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه. وكان يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم .. ثم قال : ويتبيّن من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع :
(أحدها) : السؤال عمّا لا ينفع في الدين ، كسؤال (١) عبد الله بن حذافة : من أبي؟ وروي في (التفسير) أنه عليهالسلام سئل : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط
__________________
(١) أخرجه البخاري في : العلم ، ٢٩ ـ باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدّث ، حديث ٨٠ عن أنس بن مالك.