مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ، إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى ، مع معاينتهم لموجبات توحيده. وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكره من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها ، كما ورد في قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١]. لما أن محل النزاع بعثهم. فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ، وهم بشئون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح. والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ. أي : ابتدأ خلقكم منه ، فإنه المادة الأولى للكل ، لما أنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر. وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين ، لا إلى آدم عليهالسلام ، وهو المخلوق منه حقيقة. بأن يقال : هو الذي خلق أباكم .. إلخ مع كفاية علمهم بخلقه عليهالسلام منه ، في إيجاب الإيمان بالبعث ، وبطلان الامتراء ـ لتوضيح منهاج القياس ، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس. مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية : هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ، عليهالسلام ، منه ، حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد الجنس ، انطواء إجماليا ، مستتبعا لجريان آثارها على الكل. فكان خلقه عليهالسلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه. ولما كان خلقه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته ، أبدع من أن يكون ذلك مقصورا على نفسه ، كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه ، وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم ، وكمال علمه وحكمته ، وكان ابتداء حال المخاطبين أولى بأن يكون معيارا لانتهائها ـ فعل ما فعل. ولله در شأن التنزيل! وعلى هذا السر مدار قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١]. إلخ. وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩]. كما سيأتي.
وقيل : المعنى خلق أباكم منه ، على حذف المضاف. وقيل : معنى خلقهم منه ، خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض. وأيا ما كان ، فيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ، ما لا يخفى. فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط ، كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة ـ أفاده أبو السعود ـ.
وفي (العناية) : أن في الآية التفاتا ، لأن الخطاب ـ وإن صح كونه عامّا ـ لكنه خاص بالذين كفروا ، كما يقتضيه (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة ، والشكر عليه أوجب. وقد أشير في