وَجَهْرَكُمْ) أي من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي : ما تفعلونه من خير أو شر ، فيثيب عليه ويعاقب. وتخصيصه بالذكر ، مع اندراجه فيما سبق ، على التفسير الثاني للسر والجهر ـ لإظهار كمال الاعتناء به الذي يتعلق به الجزاء. وهو السر في إعادة (يعلم).
قال الناصر في (الانتصاف) : وما هاتان الآيتان الكريمتان ـ يعني هذه الآية وآية الزخرف ، وهي قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] ـ إلّا توأمتان. فإن التمدح في آية الزخرف ، وقع بما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة والاستئثار بعلم الساعة والتواجد في الألوهية ، وفي كونه تعالى المعبود في السموات والأرض.
وقال الإمام ابن كثير رحمهالله تعالى : للمفسرين في هذه الآية أقوال ، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية ، الأول القائلين ـ تعالى عن قولهم علوا كبيرا ـ بأنه في كل مكان ، حيث حملوا الآية على ذلك. فالأصح من الأقوال أنه المدعوّ في السموات والأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقرّ له بالآلهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه (رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠]. إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية ـ على هذا القول ـ كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ). أي : هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا ، فيكون قوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) خبرا أو حالا.
والقول الثاني ـ إن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر. فيكون قوله (يَعْلَمُ) متعلقا بقوله (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات ... إلخ.
والقول الثالث ـ إن قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) وهذا اختيار ابن جرير. انتهى.
ورجح ابن عطية في الآية : أنه الذي يقال له (اللهُ) فيهما. قال : وهذا عندي أفضل الأقوال ، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى ، وإيضاحه : أنه أراد أن يدل على خلقه ، وآيات قدرته ، وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات. فجمع هذه كلها في قوله (وَهُوَ اللهُ) ـ الّذي له هذه كلّها ـ (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) كأنه قال : وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.