ثم بيّن تعالى أن إنكاره خسران لما عرفوه ، ولما أمروا بالتدين به بقوله (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : من المشركين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : بهذا الأمر الجليّ الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ، وتوهّت به ، لأنه مطبوع على قلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كقولهم : الملائكة بنات الله [الأنعام : ١٠٠] ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. قال تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨].
(أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي : القرآن والمعجزات ، حيث سموها سحرا. وإنما ذكر (أَوْ) مع أنهم جمعوا بين الأمرين ، تنبيها على أن كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. فكيف؟ وهم وقد جمعوا بينهما ، فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ، ونفوا ما أثبته.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي : لا ينجون من مكروه ، ولا يفوزون بمطلوب. وإذا كان حال الظالمين هذا ، فكيف بمن لا أحد أظلم منه؟
تنبيه :
ما ذكرناه من كون الموصول كناية عن المشركين هو الظاهر ، لأن السورة مكية ، والخطاب مع مشركي أهلها. وجعله البيضاويّ لهم ، ولأهل الكتاب ، وقوفا مع عموم اللفظ ، والمهايميّ ؛ لأهل الكتاب خاصة ، ربطا للآية بما قبلها. والظاهر الأول ، لما قلنا. وعبارة المهايميّ : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتفويت ما أوتوا من الكتاب ، وما أمروا به ، فهم لا يؤمنون. وكيف لا يخسرون ، وهم ظالمون ، وكل ظالم خاسر؟ وإنما قلنا : إنهم ظالمون ، لأنهم يحرفون كتاب الله لفظا أو معنى ، فيفترون على الله الكذب ، ويكذبون آيات الله من كتابهم ، ومعجزات محمد صلىاللهعليهوسلم وكتابه. وقد يسترون بعض ما في كتابهم ، وهو أيضا تكذيب. فعلوا جميع ذلك لأنه لا يتأتى لهم ترك الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم بدون أحد هذه الأمور.
وقال في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) الآية : لأنهم بالتحريف يدّعون إلهية أنفسهم ، وبالتكذيب يريدون تعجيز الله عن تصديقه الرسل ، وينسبون إيجادها إلى غير الله ، مع افتقارها إلى القدرة الكاملة. وإنما قلنا : كل ظالم خاسر ، لأن كل ظالم