الثاني ـ ما بينّاه من أن (ما) في قوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) موصولة ، كناية عن الشركاء ، بمعنى عدم إغنائها عنهم ـ هو الموافق للآية الثانية التي سقناها. وجوز كونها مصدرية. أي : انظر كيف ذهب وزال عنهم افتراؤهم من الإشراك ، حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية ، وتبرؤوا منه بالمرة.
هذا ، وجعل الناصر في (الانتصاف) (ضَلَ) بمعنى سلبوا علمه ، فكأنهم نسوه وذهلوه دهشا. وهو بعيد ، لعدم ملاقاته للآية الأخرى. والتنزيل يفسر بعضه بعضا. وعبارته : في الآية دليل بيّن على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، كذب ، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره بمخبره. ألا تراه جعل إخبارهم وتبرّيهم كذبا ، مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون. أي : سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة. فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم. انتهى.
الثالث ـ قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور ، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟.
قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه ، من غير تمييز بينهما ، حيرة ودهشا ، ألا تراهم يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون : ١٠٧]؟ وقد أيقنوا بالخلود ، ولم يشكوا فيه. (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ١٠٧]. وقد علموا أنه لا يقضي عليهم.
وأما قول من يقول : معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا ، وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعني في الدنيا ـ فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام ، إلى ما هو عيّ وإفحام. لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ، ليس هذا الكلام بمترجم عنه ، ولا منطبق عليه ، وهو ناب عنه أشد النبوّ. وما أدري ما يصنع ، من ذلك تفسيره ، بقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨]. بعد قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا. انتهى.
والقول المذكور ، والحمل الذي ناقش فيه ، أصله لأبي عليّ الجبائيّ والقاضي. فإنهما ذهبا إلى أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب ، واعتلا بوجوه واهية ساقها الرازيّ. فلتنظر ثمّت ، فإنا لا نسوّد وجوه صحائفنا بما فيه تحكيم العقل على النقل.
ثم بيّن تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة ، مما طبع على قلوبهم بسببه فقال سبحانه :