مُشْرِكِينَ) اعتذروا عن أصنامهم بنفيها مؤكدا بالقسم بالاسم الجامع ، مع نسبة الربوبية إليه تعالى ، لا إلى ما سواه ، مبالغة في التبرؤ من الإشراك. فكان هذا العذر ذنبا آخر مؤكدا لافترائهم بالإشراك الذي نفوه. كما قال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٤)
(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي : بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب ، بحضرة من لا ينحصر من الشهود (وَضَلَ) أي : وكيف ضاع وغاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : من الشركاء ، فلم تغن عنهم شيئا ، ففقدوا ما رجوا من شفاعتها ونصرتها لهم ، كقوله تعالى : ثم قيل لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) [الأعراف : ٣٧]. ف (ما) موصولة ، كناية عن الشركاء. وإيقاع الافتراء عليها ، مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها من الإلهية ، والشركة والشفاعة ونحوها ـ للمبالغة في أمرها ، كأنها نفس المفتري.
تنبيهات :
الأول ـ ما ذكرناه من أنه عبر عن جوابهم بالفتنة هو الأظهر. فالمراد : الجواب بما هو كذب ، لأنه سبب الفتنة ، فتجوّز بها إطلاقا للمسبب على السبب ، أو هو استعارة. وقيل : الفتنة بمعنى العذر ، لأنها التخليص من الغش لغة ، والعذر يخلّص من الذنب ، فاستعيرت له. وقيل : بمعنى الكفر ، لأن الفتنة ما تفتتن به ويعجبك ، وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به ، ويظنونه شيئا ، فلم تكن عاقبته إلا الخسران ، والتبرؤ منه ، وليس هذا على تقدير مضاف ، بل جعل عاقبة الشيء عينه ، ادّعاء.
قال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة ، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام ، وتصرف العرب في ذلك. وذلك أن الله تعالى بيّن كون المشركين مفتونين بشركهم ، متهالكين على حبه ، فأعلم في هذه الآية ، أنه لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرؤوا منه وتباعدوا عنه ، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين. ومثاله : أن ترى إنسانا يحب غاويا مذموم الطريقة ، فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه ، فيقال له : ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه.
قال الخفاجيّ ـ بعد نقله ما ذكر ـ : وليس هذا من قبيل عتابك السيف ، ولا من تقدير المضاف ، وإن صح فاحفظه ، فإنه من البدائع الروائع.