ثم عدوله عنه إلى الإيمان ، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور ، توفيقا من الله له ، ولطفا به ، بل وبالعكس في حق الكافر. وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب : وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار ، لإقامة حجة الله على عباده ـ والله أعلم ـ انتهى.
الثاني : في قوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) ردّ إلى الله تعالى مستقيم.
قال الواحدي والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية ، أن شعيبا وأصحابه قالوا : ما كنا لنرجع إلى ملتكم ، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار ، إلا أن يريد إهلاكنا. فأمورنا راجعة إلى الله ، غير خارجة عن قبضته ، يسعد من يشاء بالطاعة ، ويشقي من يشاء بالمعصية. وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله. ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة ، وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥]؟ وكان نبيّنا محمد صلىاللهعليهوسلم كثيرا ما يقول (١) : «يا مقلّب القلوب! ثبّت قلبي على دينك».
وقال الزجاج : المعنى : وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) ، يعني أنه تعالى يعلم ما يكون ، من قبل أن يكون ، وما سيكون. وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء. فالسعيد من سعد في علم الله تعالى. والشقي من شقي في علم الله تعالى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : موقع قوله (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة ، والاطلاع على الأمور الغائبة. فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد. ولو وقع. فبقدرة الله ومشيئته المغيّبة عن خلقه. فالحذر قائم ، والخوف لازم. ونظيره قول إبراهيم عليهالسلام (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ٨٠] لما ردّ الأمر إلى المشيئة ، وهي مغيّبة ، مجّد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات ـ والله أعلم.
وقال أبو السعود : معنى (وَما يَكُونُ لَنا ...) الآية ـ أي ما يصح لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال ، أو في وقت من الأوقات ، إلا أن يشاء الله. أي إلا حال
__________________
(١) أخرجه الترمذي في : القدر ، ٧ ـ باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.